أمريكا تعانى الصدع العظيم، أرض الأحلام تنام مع الكوابيس، لا تجد شابا يشبه جون كيندي، أو مفكرا سياسيا مثل ريتشارد نيكسون.
أرض اللبن والعسل تتحول إلى جدباء عقيم، يتصارع عليها عجوزان: جو بايدن (81 سنة) ودونالد ترامب (78 سنة).
تفتقد مراكز التفكير، تسقط فى مستنقع أعظم من فيتنام أو العراق، تقرأ بول كيندى عن صعود وانهيار الإمبراطوريات وتنسى الوصايا.
فى وقت مبكر تخترع المناظرات العلنية بين المرشحين، يتحول الاختراع إلى حالة عالمية، وكثيرا ما هبطت المناظرة بأسهم مرشح وأخرجته من السباق، وحولت آخر إلى نجم ساطع، وحالة نيكسون خير دليل.
الاختراع الأعجوبة يتحول الآن إلى مأساة من مآسى وليم شكسبير.
فى مناظرة ودية، استبقت قناة سى إن إن الأمريكية، الخامس من نوفمبر 2024، ونصبت السيرك للمرشحين المحتملين جو بايدن ودونالد ترامب، لتنكشف أعصاب أمريكا عارية، غارقة فى الآلام.
الأول يمارس السياسة منذ نصف قرن، يمثل نخبة واشنطن العتيدة، يلعب دوره المرسوم بإتقان، يؤمن بالحروب كتجارة مربحة للإمبراطورية!
الثانى يجد نفسه على مسرح الأحداث، يتقدم الصفوف، يصارع هيلارى كلينتون ويفوز، تتغير معه المعادلة الأمريكية، بعض كارهيه يعتقدون أنه مجرد جملة اعتراضية، يمثل الحزب الجمهوري، بينما لم يكن ضمن صفوفه فى أى مرحلة تاريخية.
هل انتهى الدرس الأمريكى على المسرح الدولى؟
أكاد أجزم بأن ترامب، إذا نجا من ملاحقة القضاء، سيكون الرئيس السابع والأربعين فى سلسلة الرؤساء الأمريكيين، وسيعيد سيرة ومسار الرئيس الأمريكى السابع أندرو جاكسون، وكان ترامب يضع صورته أمامه فى المكتب البيضاوى، ويتخذه معلمًا من بين الرؤساء الأمريكيين جميعًا، وتلك قصة أخرى، وأكاد أجزم بأنه مع ترامب سيتغير جوهر النظام الأمريكى، ويتغير معه إيقاع العالم.
يقوم جوهر النظام العالمى الحالى على التحالف الوثيق بين أوروبا وأمريكا عبر المحيط الأطلنطى، ويستخدم حلف الناتو فى تنفيذ سياساته، وترامب لا يرى حاجة لاستمرار هذا التحالف، ولا يرى حاجة لاستمرار حلف الناتو بعد فك روابط حلف وارسو السوفيتى القديم، ولا يرى ضرورة فى اندفاع أمريكا فى حروب أو إشعال ثورات.
لا تعود شعبيته المتزايدة لدى الشباب الأمريكى إلى صعود اليمين المتطرف وحده، بل تعود إلى بذرة كامنة فى السياسة الأمريكية نفسها، ترى أن الخروج من وراء المحيطين ليس بضرورة وطنية، وترى من الأفضل أن تتخلص أمريكا الجديدة من أزمات العالم القديم المزمنة، بما فيها أوروبا الحليف الوثيق.
أوروبا نفسها تتنفس غضبًا، وتريد الخروج من عباءة عتيقة، تجعلها تنخرط فى صراعات وحروب دائمة، تكاد تلتهم القارة العجوز، الفاقدة للابتكار والإبداع، إلا من الركون إلى ماض كانت تحتل فيه ثلاثة أرباع الأرض.
التصويت العقابى فى أوروبا لأحزاب اليمين المتطرف، واليسار المتطرف بمثابة ثورة عارمة، لا تقل عن ثورة الطلاب العالمية عام 1968، ورسالة مشفرة إلى ترامب وداعميه الذين يقتربون من 80 مليونا، ورسالة أخرى إلى الحزب الديمقراطى الأمريكى بأن العاصفة بدأت، ليس من أجل استبدال المرشح جو بايدن بآخر، بل بحثاً عن ملاذ آخر، لا تغطيه سطوة إمبراطورية واحدة، ترغب فى استعادة جوهر قديم فى كئوس جديدة.
درس المناظرة رسالة عميقة الأثر، يتجلى فى نتائج الانتخابات الأوروبية، ويتجلى فى تصاعد الغضب من نخبة قديمة، تؤمن بأن الحروب ”تجارة رابحة”.