قاعدة شهيرة يعلمها كل راكبى القطارات، مضمونها أن القطار يصل فى موعده وينطلق فى موعده، ولن ينتظر أحدًا، أنت من يجب عليه الانتظار بأدب واحترام لهذا المارد العملاق، الذى حتى لو تأخر عن موعده لا يحق لك الاعتراض فهو حر فيما يفعله، وطالما وصل المحطة – حتى ولو متأخرًا - فلن ينتظر وصولك، دقيقة أو اثنتان وينطلق إلى حال سبيله، وقد عرفنا القاعدة والتزمنا بها، وعلى مدار سنوات طويلة كانت تغتال عقولنا فكرة أنه طالما يحق للقطار أن يتأخر فلماذا لا يحق لنا أن نتأخر وينتظرنا القطار؟ أتذكر صديقًا ظل يقسم أن القطار رحل وتركه رغم أنه لم يتأخر إلا دقيقتين فقط فى حين تأخر القطار الأسبوع الماضى لمدة ربع ساعة كاملة ولم يعاقبه أحد! ثم نزع نظارته وقال إن سائق القطار الذى تأخر لابد وأن يعاقب وأن تعويضًا لائقًا يجب صرفه للركاب الذين تعطلوا عن مصالحهم والطلبة الذين تعطلوا عن اللحاق بامتحاناتهم.
احترامًا لتلك القاعدة اعتدت الخروج من عملى والتوجه إلى وسط البلد أتجول بها ما شئت ثم أتجه إلى المحطة فى الوقت المناسب سيرًا على الأقدام، هذا بالطبع إن امتلكت فسحة من الوقت.
فى ذلك اليوم اتجهت إلى منطقة العتبة وظللت أتجول فى سوقها ثم ذهبت إلى شارع الأزهر، لا أدري لماذا! لكن تلك المنطقة - رغم زحامها الشديد – إلا أن لى معها كثيرًا من الذكريات التى تشعرنى بدفئ غريب، يكفينى فقط السير فى الميدان والنظر إلى أركانه ومبانيه التاريخيه حتى أستعيد سنوات طويلة مرت دون استئذان، لكن الفترة المميزة هى عملى فى الماضى فى إحدى الجرائد فى منطقة عابدين، حيث كنت أخرج مع زملائى من الجريدة نتجول هنا وهناك وتأخذنا أقدامنا بالضرورة إلى ميدان العتبة وشارع الأزهر، المنطقة بأكملها محفورة بالذاكرة بشوارعها وأزقتها، مقاهيها وعربات الفول ومحلات الكشرى التى كانت ملجأنا وملاذنا حين يتأخر صرف الراتب فى الجريدة، والحق أن تأخر الراتب كان أمرًا متكررًا وعادة مستمرة كان لها الفضل فى توطيد علاقتنا بتلك الأماكن توطيدًا عظيمًا.
ما أذكره فى ذلك اليوم، أننى غادرت مكتبى فى الجيزة، وكان ما يزال أمامى ساعة ونصف للحاق بالقطار، وقت أكثر من رائع للتجول والتسوق.
ورغم حرصى فى هذه الحالة على الالتفات إلى ساعتى كل خمسة أو عشرة دقائق حتى لا يفوتنى القطار، إلا أننى فى ذلك اليوم لم أنتبه ولم أفق إلا وأنا عند جراج العتبة وساعتى تشير إلى أنه لم يتبق على انطلاق القطار إلا عشر دقائق!
عشر دقائق فقط للوصول إلى محطة القطار، المشكلة أن شارع كلوت بك مزدحم فى ذلك الوقت بشكل رهيب ولا يمكن للتاكسى أن يسير فيه أصلًا . لذلك وباعتباره أقصر الطرق إلى محطة مصر، كان السبيل الوحيد هو السير أو بالأحرى الجرى عبر شارع كلوت بك للحاق بالقطار.
أسرعت خطوتى بشكل ملحوظ، وكلما شعرت بقدرتى على الجرى جريت وسط المارة الذين كانوا ينظرون بشفقة إلى هذا الأفندى ذي البدلة والكرافتة والحقيبة فى يده الذى يجري بوجه أحمر تكاد الدماء تنفجر منه، هو متأخر عن موعد مهم بالتأكيد.
ظللت أجرى وأتخبط بالناس، يصيبنى الإعياء فأبطئ خطواتى مضطرًا، وما إن أشعر بتحسن حتى أعود إلى الجرى، الغريب أننى بعد خمس دقائق فقط وجدت نفسى على عتبة ميدان رمسيس، فحمدت الله وأخذتنى الثقة والإعجاب بنفسى إلى حد بعيد، ولم لا؟ لقد قطعت شارع كلوت بك المزدحم فى تلك الساعة من النهار في خمس دقائق فقط، فلا شك أن أصل إلى القطار فى دقيقتين على أقصى تقدير، فبدأت خطواتى تتباطأ، ما أقبح الثقة فى تلك المواقف، أنستنى أن الميدان مكتظ بالسيارات، الانتظار فى إشارة مرور شارع رمسيس وحدها كفيل بتحطيم كل أحلام اللحاق بالقطار.
لم يتبق إلا دقيقتان، باب المحطة أصبح على بعد خطوات، لكن أنفاسى أضحت منقطعة تمامًا لكننى سرت مضطرًا حتى أصبحت بداخل صالة محطة مصر ورأيت القطار أمامى فاطمأن قلبى وتوجهت إليه مباشرة وأنا أشكر الله، لكن فجأة وأنا على بوابة الرصيف بدأ القطار فى التحرك، نظرت إليه فى غضب أين تذهب أيها الغادر ألم أنتظرك بالأمس عشرين دقيقة وأنت تتلكع في الطريق، لم ألومك أو أعنفك عندما وصلت بل حمدت الله وهنأت نفسى وهنأتك على سلامة الوصول، لكنك بمجرد أن رأيتنى أدرت وجهك عنى وكأنك لا تعرفنى، لكن هيهات بعد كل ذلك الكفاح أن أتركك تذهب من دونى!
جريت بأقصى ما أستطيع ولحسن حظى كان بعض الركاب يقفون على باب أول عربة المؤدى إلى الدرجة الأولى، جريت بكل طاقتى حتى التقطونى إلى داخل القطار وكانت تلك اللحظة هى آخر شيء تذكرته حين أفقت ووجدت نفسى جالسًا على كرسى بداخل الدرجة الأولى والناس من حولى يقولون وأنا أفتح عينى: الحمد لله، ما يزال حيًا! وعرفت أننى قد أصابنى الإغماء بمجرد أن وضعت قدميَّ داخل القطار، كنت أنظر حولى دون كلمة، لا أستطيع التقاط أنفاسى، شعرت وكأن روحى تخرج إلى بارئها.. لذلك بعد هذا الموقف أقسمت أنني لن أفعلها أبدًا، لن أجري خلف قطار حتى ولو كان بيني وبينه متر واحد.