قبل الحديث عن أهمية التوازن البيئي، والحفاظ على الغطاء النباتي للتخفيف من التأثيرات المناخية، وقضايا التناغم البيئي، كانت الثقافة السائدة لدى المصريين القدماء أن زراعة الأشجار وحمايتها هي أولوية قصوى، فالفراعنة كانوا يقدسون الأشجار ويهتمون بها في الحياة وعند الممات، في الحياة، استخدمها المصري القديم في بناء البيوت وصناعة السفن وأدوات المعيشة، وعند الموت، حرص علي صنع سقف مقبرته من الاشجار.
ولم يتوقف الاهتمام بالشجر، في الماضي، عند الحياة والموت، بل في الحروب أيضا، فقد كانت أولى وصايا النبي، صلى الله عليه وسلم، لجنوده في الحروب: "لا تقطعوا شجرة.. ولا تقتلوا امرأة ولا صبيا ولا وليدا ولا شيخا كبيرا ولا مريضا".. فالشجر مانح الحياة عبر الأكسجين، وكذلك الظل وتنقية الهواء والماء، وحفظ التربة من التآكل، فضلا عن الغذاء.
واليوم، وبالرغم من المبادرات والجهود الرسمية والأهلية المتواصلة لغرس الأشجار والاهتمام بزراعتها،
فإن الجدل حول قطع الأشجار وتراجع الاهتمام بالغطاء الأخضر قائما، وقد انتشرت جهود ومبادرات رسمية وشعبية عديدة للتشجير، مثل "100 مليون شجرة"، و"شجرها"، و"لا لقطع الأشجار فى مصر" و"سيبوا الشجر يعيش"، وغيرها، فقد نظم "المكتب العربي للشباب والبيئة"، و"المنتدى المصري للتنمية المستدامة"، حوارا موسعا حول زراعة الأشجار، برعاية وزارة البيئة، ضم نواب مجلسي النواب والشيوخ، والوزارات والمحافظات، والجامعات والمراكز البحثية، والنقابات، وخبراء ومتخصصين بمنظمات المجتمع المدني بهدف المشاركة، لوضع الإطار التشريعي، وزيادة الوعي لتحقيق التوازن البيئي.
من بين أهم القضايا التي أثارها الحوار، الذي افتتحته د. ياسمين فؤاد وزيرة البيئة، الأسبوع الماضي، إعطاء دور محوري لممثلي مجلسي النواب، لمعالجة القضية عبر التنسيق مع مجلس الشيوخ، من خلال لجنة الطاقة والبيئة والقوى العاملة، لإصدار "قانون البيئة الموحد"، بهدف تسريع العمل في مبادرة 100 مليون شجرة، وتعظيم دور القانون لدعم قضايا البيئة.
سادت قضية ترشيد المياه والري الذكي جانبا مهما من الحوار، خاصة التنبيه بمخاطر الشح المائي العالمي المتوقع، في ظل التغيرات المناخية والاحترار العالمي، وهو ما يستدعي ضرورة تطبيق المزيد من الشفافية والنزاهة أو ما يعرف ب "حوكمة" زراعة وري ورعاية الأشجار، وتناغم الجهود التي تبذلها مصر محليا لتحسين الوضع البيئي، مع جهود خفض انبعاثات الاحتباس الحراري، منها التشجير، فقد تم زراعة 12.4 مليون شجرة خلال عام ونصف، في عموم المحافظات.
علي الجانب الآخر غير الرسمي، اعتبر رئيس المكتب العربي للشباب والبيئة د.عماد الدين عدلي ان تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة لغرس وري ورعاية الأشجار، من أهم القضايا الراهنة والتي يسعى المجتمع المدني، ليحقق دورا إيجابيا فاعلا، حيث تعد قضية إدارة وترشيد استخدام المياه من بين أهم قضايا التنمية المستدامة فائقة الأهمية.
علي الجانب الآخر، دعا برلمانيون، خلال الحوار، الحكومة لتبني سياسات تحفيز القطاع الخاص والمجتمع المدنى على الاستثمار فى تشجير وزيادة زراعة أسطح المباني، والتوسع فى قواعد بيانات التنبؤات المناخية، ومشاركتها بين القطاعات والجمهور، لإدارة متطورة رشيدة لتفادي الأخطار.
عضو مجلس النواب عن الحزب المصرى الديمقراطى النائبة مها عبدالناصر، تقدمت بطلب، بسبب تراجع المساحات الخضراء والقطع الجائر للأشجار، ما أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة، وأضافت ان الدولة شهدت مؤخرا زيادة ملحوظة فى درجات الحرارة، وطالبت بتبنى الحكومة سياسات جذب للقطاع الخاص والمجتمع المدنى على الاستثمار فى تشجير وزيادة زراعة أسطح المبانى.
ذكرت بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، أن أعداد الحدائق العامة والمنتزهات فى 2014 كان 2600 حديقة ومنتزه، تراجعت لتصبح 1358 حديقة فى عام 2022.
ويتسبب غياب الجدية والإدارة المنضبطة للمشروعات، في حدوث خسائر جسيمة للتنمية، فقد كشفت بيانات خسائر "سوء حوكمة" لمشروعات البنية الأساسية فى العالم، حيث تصل نسبة عدم الكفاءة فى الدول النامية 53%، وفي الأسواق الناشئة 34%، وفي الدول الصناعية 15%.
هناك أمر مطمئن، وآخر مثير، المطمئن أن لدينا معهدًا للحوكمة والتنمية المستدامة، وهو من أوائل المراكز المعنية بإدارة الحكم الرشيد، عبر تطبيق عناصر الحوكمة في الجهاز الإداري للدولة، ومنها الشفافية والنزاهة، والكفاءة والفعالية، والمشاركة، وحكم القانون، والمساءلة، ويتبع المعهد وزارة التخطيط، التي قررت إنشاء "وحدة الحوكمة" منذ 8 سنوات.
نعم.. لدينا كافة الخبرات والموارد البشرية المتنوعة، والطبيعية اللامحدودة، فضلًا عن اهتمام الإدارة السياسية بدمج الحوكمة في كافة الأنشطة والقطاعات، هذا على الجانب الرسمي، أما الجانب المدني، فهناك زيادة في نسبة وعي المواطنين في مصر بنسبة 85% على مدى 10 سنوات، خاصة في مصطلحات الطاقة الجديدة والمتجددة وكفاءة الطاقة والتصحر، وزيادة مشاركات الشباب في مبادرات تغير المناخ، وهو ما ذكره تقرير حول سياسات الدول في ملف التحول الأخضر، في ٩٠ دولة منها مصر، أصدرته "جامعة اكسفورد"، حول تقييم التغيير من خلال نسبة وعي المواطنين تجاه قضايا تغير المناخ.
لعلنا نتمكن من ترجمة كل هذه الموارد والخبرات، اليوم قبل الغد..ونتذكر الحديث النبوي:"إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها".
[email protected]