خرج عن الحوار الوطني توصيات مهمة، وأكثر من ذلك أنها واقعية لا تفارق الممكن ولا تلامس المستحيل. ولكن ظن كثيرون أنها لن تتحقق، لأنها غير ملزمة فضلا عن أن تنسيقية الحوار ليست جهة تنفيذية، ولم تدعي ذلك في أي وقت. وهو ما عبر عنه المنسق العام ضياء رشوان بأنهم لا يعملون لحساب الحكومة او بديلا عنها ولا يضعون سياسات إلزامية لأحد.
وقد أعطى الرئيس السيسي الاعتبار لهؤلاء الذين انخرطوا في الحوار بجدية، وصدقوا في إمكانية إنتاج رؤى ومفاهيم جديدة قابلة للتطبيق من خلاله، وذلك باستجابته للعديد من مقترحات الحوار العاجلة، وخص الرئيس بالقرارات الفورية ما اتصل من المقترحات بالجانب الاجتماعي المرتبط بالشرائح الأكثر احتياجا في المجتمع.
لقد تابعنا قرار الرئيس بناء على ما جاء في الحوار، بزيادة الدعم الاستثنائي للأسر الأكثر احتياجا على بطاقات التموين إلى 300 جنيه بدلا من 100، زيادة دعم مصاريف الدراسة الخاصة بالطلاب المتقدمين للالتحاق بالجامعات الأهلية الحكومية، وتحمل الدولة نسبة من تلك المصاريف، وقرار تقديم دعم إضافي لمبادرة إنهاء قوائم انتظار حالات الجراحات الحرجة بـ 600 مليون جنيه، وتقديم حزم تحفيزية للأطباء، والارتقاء بدخلهم وكذلك تعديل منظومة تكليف الأطباء بالكامل.
واستجابة للقوى السياسية المشاركة في الحوار، تم ضخ 32 مليار جنيه لمنظومة دعم الخبز، وزيادة أعداد الأسر المغطاة بالدعم النقدي ضمن برنامج "تكافل وكرامة" من 4.1 مليون أسرة لتصبح 5 ملايين أسرة أي أنها تشمل نحو 22 مليون مواطن مصري، وذلك من خلال ضم أكثر من 900 ألف أسرة للاستفادة من برنامج الدعم النقدي المشروط.
وكانت تدوينة السيسي في شهر أغسطس الماضي، بأنه "تلقى باهتمام بالغ مجموعة من مخرجات الحوار الوطني، وسيحيلها إلى الجهات المعنية بالدولة لدراستها وتطبيق ما يُمكن منها في إطار صلاحياته القانونية والدستورية" مؤشر دال على قناعته بالحوار والمشاركين فيه.
وصدرت توجيهات من الرئيس بالعمل على إحداث تعديل تشريعي يسمح بالإشراف الكامل من الهيئات القضائية على العملية الانتخابية، كما لا يمكن إنكار أثر وفعل الحوار على تنشيط أعمال لجنة العفو الرئاسي.
لقد أنجزت المرحلة الأولى من الحوار 135 توصية نجمت من قاعدة أساسية بين المتحاورين، فكرة إمكانية الوصول إلى "مساحات مشتركة" (وهو الشعار الذي بدأ به الحوار) وثبت وجود هذه المساحات، أو تم التوصل والتوافق حولها بين مختلف المشاركين.
وقد تلقت مؤسسة الحوار ما يفيد اهتمام الحكومة، ورغم التغيير الواسع في الحقائب الوزارية فإن استمرار الدكتور مصطفي مدبولي رئيسا لمجلس الوزراء، يعطي التزاما بما تم الاتفاق عليه. فقد التقى مدبولي في نهاية مارس الماضي اللجنة التنسيقية المشتركة، وتلقى التوصيات، وأبلغهم باهتمامه الـ"جاد بوضع التوصيات والمخرجات حيز التنفيذ".
من هذه الوضعية الجيدة بين أصحاب الحوار وإنجازهم، وجدية الحكومة ورغبتها، وتوجيهات الرئيس، يمكن للحكومة أن تبرهن على اهتمامها وانحيازها للمواطن، الذي عانى كثيرا. ويستطيع الجهاز الحكومي الضخم في وقت معقول أن ينفذ التوصيات المهمة التي توصل لها الحوار الوطني. نحن أمام حكومة جديدة إذًا، ليس أمامها إلا العمل على المستقبل، ووضع خطط عملية ومشروعات قوانين مما أوصت به جلسات الحوار الوطني. وأن تحول الكثير مما جاء فيها إلى مشروعات قوانين، ستجد ظهيرًا قويًا لها في مجلس النواب.
ومن هذه التوصيات ما يكتسب صفة العجالة، خصوصًا صدور اللائحة التنفيذية لقانون رعاية حقوق المسنين الذي كان أحد اقتراحات الحوار، وقانون تنظيم إدارة مفوضية منع التمييز، وقانون موحد للعمل التعاوني.
وهناك أهمية لوضع تصور زمني بإحالة مشروعات قوانين خاصة بدعم الحريات الأكاديمية والبحث العلمي، وقانون تأسيس الجمعيات الأهلية ومواردها وأنشطتها الاقتصادية، وحقوقها والتزاماتها، باعتبار قدرات الجمعيات الأهلية في التواجد المباشر بين الناس وسرعة خدمتهم.
ونستطيع ملاحظة خروج الحوار بتوصيات اقتصادية هامة سيكون على الوزارة المختصة أن تتحرك نحوها، مثل تحويل الهيئة العامة للثروة المعدنية إلى هيئة اقتصادية، والتوسع في إنشاء المناطق الحرة العامة والخاصة. وبالنسبة للزراعة فإنه مما يفيد المساحات الصغيرة زيادة عدد المحاصيل الزراعية التعاقدية، وزيادة قيمة الإنتاج الزراعي، وحل مشاكل "كارت الفلاح" خصوصًا في مسألة صرف الأسمدة، والتركيز على الإنتاج الصناعي، وعمل كل شيء يمكن أن يمنع غلق مصنع مهما كان عدد العمالة به، وتسهيل الأمر على رجال الصناعة، حتى لا يصبح فتح مقهىً، أكثر ربحية وراحة من إقامة مصنع أو الاستمرار في تشغيله. وعلى الحكومة أن تحدد من الآن موعد المؤتمر السنوي الأول للصناعة الذي أوصي به الحوار الوطني، والذي سيكون له دور في الإنتاج والتحديث والاستثمار الصناعي.
وإذا كانت لجنة التعليم قد أوصت بعقد مؤتمر سنوي للتعليم، فإنها لفتت النظر إلى النقص الملحوظ في ثقافة خدمة المجتمع في المدارس، وفي الاهتمام بتدريس مناهج التربية القومية والأخلاق، وهي شديدة الأهمية في دعم الهوية المصرية. وكان لافتا اقتراح لجنة الثقافة والهوية لأمرين في غاية الأهمية، إعادة إطلاق مشروع القراءة للجميع، وتأسيس "مجموعة ثقافية" بين وزارات عدة.
ومن البديهي أن تنعكس انحيازات الحكومة على أداء المحافظين، الذي نتطلع إلى إنهاء مقولة "المحافظين غلابة"، فالمحافظون مرآة عاكسة للحكم في محافظاتهم، وإذا لم يكن لهم قرارات مباشرة في بعض الملفات، فعلى الأقل يجدون التعاون الملزم من الحكومة.