«الإله لا يلعب بالنرد»، هكذا تكلم أينشتاين وأيا ما كان يقصده، فإن جملته بليغة، ومغرية للاستعارة، والاستعادة.
ومصر أيضا لا تلعب بالنرد، فقد جاءت فى تكوينها وشخصيتها فريدة، كأطول أمة موجودة على سطح البسيطة، يعود تاريخها المتواصل إلى آلاف السنين، وتعود إلى نفسها كأمة منبثقة من ذاتها، استطاعت ترويض الجغرافيا، وصياغة التاريخ.
بعض الأمم ظهرت بمغامرة قرصان أو مستكشف، أو باتفاق فى سياق تاريخى معين، بينما مصر أوجدت نفسها بنفسها، لم تهبط من السماء، ولم تستعر حضارتها من أقوام آخرين، بل صهرت معادنها النفيسة فى سبيكة من الكد والكفاح والعمل والاستمرار.
صاغت دستورها القديم، ونقشت حكمتها على جدران المعابد، وسبق توحيدها أى بشر آخرين، لا يحقد على وجودها إلا محتل أو عابر على تخومها الشاسعة.
كانت أول إمبراطورية فى التاريخ، وأول ما خضعت لأطول استعمار، كما يقول المفكر العظيم جمال حمدان، ومع هذا استطاعت الحفاظ على شخصيتها الانبثاقية، واستطاعت ترويض النهر، ولم تكن هبة النيل، بل هو نفسه الهبة، وأخضعت الجغرافيا وصاغت التاريخ، وامتلكت أربعة أبعاد، وأكثر من سبعة أعمدة ما بين الحضارية والمكانية.
يقول جمال حمدان: «ببساطة، إن مصر، أقدم وأعرق دولة فى الجغرافيا السياسية للعالم، غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة. مصر هى «قدس أقداس» السياسة العالمية والجغرافيا السياسية».
فى نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ومع ظهور تيار مصرى كان يبحث عن هويته، اندفع كتاب ومثقفون وسياسيون للتنظير حول هوية وشخصية مصر.
وكتب أحمد لطفى السيد، ومحمد حسين هيكل، وطه حسين، والعقاد المقالات والدراسات والأبحاث، واستلهمها من قبل أحمد عرابى ورفاقه، وحاول مصطفى كامل، وحزب الوفد، ورموز ثورة 19، وجاء جمال عبد الناصر ورفاقه برؤية أخرى.
البعض حاول البحث عن هوية مصر بمناهج أوروبية أو شرقية، واعتصم كل تيار برأيه، نشبت معارك ثقافية وسياسية، وكثيرا ما كان المحتل البريطانى يغذى هذا التيار أو ذاك، بحثا عن مصالحه فى إدامة الاستعمار، وكثيرا ما كانت تنعكس الأزمات العالمية سواء فى الحرب العالمية الأولى أم الثانية على المجتمع المصري.
فى أعماقها الحية كانت مصر بعيدة عن التغيير السطحى، ولا تزال رغم أن الضربات تلاحقها مع كل أزمة عالمية، فموقع مصر بين البحار واليابسة، متعدد الأبعاد، ولايزال مثار طمع دائم من جميع القوى التى تريد أن تسيطر على السياسة العالمية.
جمال حمدان، وحده كان حارس الفكرة الجوهرية، ولا يزال، وقد كتب عن شخصيتها الفريدة: ”فرعونية هى بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهرى قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدما فى الأرض وقدما فى الماء، وهى بجسمها النحيل تبدو مخلوقا أقل من قوى، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسا أكثر من ضخم، وهى بموقعها على خط التقسيم التاريخى بين الشرق والغرب تقع فى الأول ولكنها تواجه الثانى وتكاد تراه عبر المتوسط”.
وينقل حمدان عن البريطانى بيترى قوله: إن “شعب مصر مجد قوي، يعتريه الضعف كل بضع مئات من السنين - طبيعة الأشياء - فتتعرض بلاده للغزاة من الجنوب والغرب والشرق، فيتعرض هو لمؤثرات مختلفة، لكنه بالرغم منها ظل يحتفظ بطابعه وصفاته القومية وبشخصيته المتميزة بارزة المعالم”.