من الصحابيات الجليلات اللواتي كان لهن مواقف مشهودة فى الإسلام –وأكثرهن كذلك- الصحابية الجليلة "الشفاء بنت عبدالله القرشية"، هذه المرأة التى شرفت بكونها أول وزيرة تجارة فى الإسلام، بعد أن ولاها الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب ولاية السوق ومسئولية التجار، بعد معرفته مكانتها، فكان يقدرها، ويستشيرها في كثير من الأمور، فعهد إليها بتولي نظام الحسبة في السوق، وعقد الصفقات التجارية، والإشراف عليها، ومعاقبة المقصرين والغشاشين في الأسواق، والفصل في المنازعات التجارية والمالية بين الناس، ووضع القواعد التي تنظم العمل في الأسواق من بيع وشراء.
تذكرت هذه الصحابية الجليلة ذا الهمة العالية، وموقفها الحازم، الحاسم الذى توقفت أمامه متأملا، طويلا، تبجيلا، وتقديرا، وأنا أقرأ هذا البوست الدعوى، الملهم، الذى يرويه فضيلة الدكتور عادل هندي الأستاذ بكلية الدعوة الإسلامية جامعة الأزهر بالقاهرة بقوله: النُسك والعبادة في الدين لا تعني التماوت والضعف، فوزيرة التجارة والأسواق في عهد عمر بن الخطاب الشفاء بنت عبدالله القرشية، رأت أناسًا في زمنها يتماوتون؛ يُظهرون العبودية على أنها طأطأة رأس، وتقطيع ثوب، وتقشف حال، وتماوت التعبير الصوتي للكلمات، على أساس أن هذا هو التدين! فسألت: من هؤلاء؟ فقالوا لها: هؤلاء نُسّاك أو عُبّاد، فقالت: ألهذا وصل حال الإسلام؟! لقد رأيت عمر بن الخطاب كان إذا مشى أسرع، وإذا أطعم أشبع، وإذا ضرب أوجع، وإذا تكلم أسمَع، وكان أعبدهم وأكثرهم نُسُكا، هكذا هي الهمّة! هكذا هو التديّن! فليس الأكثر تماوتا هو الأكثر تدينا! الطموح لهيب الحياة ونور في الطريق.
من هذه الصحابية الجليلة، القدوة، عالية الهمة، ومن موقفها، وحديثها الملهم، رأيتنى أتحسر على أناس نراهم اليوم بيننا، فى مجتمعنا، يتصفون بما رأته الشفاء، فيتماوتون، ويطأطئون الرأس، متخاذلين، يركنون إلى الدنيا فى دعة وكسل، وحالة من الهزيمة النفسية على المستوى الفردي والجماعي، فى تعبد ونسك شكلى، زائف، لا يقره ديننا، ولا أخلاقه، الداعية الى علو الهمة، وقوة الإرادة والعزيمة، ونشر الطموح بين أبنائه، ولنا فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام القدوة الحسنة، وما تلاهم من جيل التابعين وتابعي التابعين.
إن ديننا الإسلامي الحنيف يرشدنا ويعلمنا ألا نرضى إلا بالمنزلة العالية، بل لا نعترف بما نراه وما يسمى مستحيلا، فنتحداه، وننجز ما ينوء به أولو القوة، مقتحمين الأهوال والصعاب في سبيل هذا، نجود ونضحي بالنفس والنفيس سبيلا لتحقيق غايتنا وبغيتنا، ولكم أثبتت الحياة على مر العصور، وقصص التاريخ، أن المكارم منوطة بالمكاره، وأن الكمالات والخيرات لا يصل إليها إلا بالألم والمشقة والجهد، وفى هذا ما يقرره لنا نبينا الحبيب من محبة الله لمعالي الأمور فى قوله لأصحابه: ﴿إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفاسفها﴾.
ولكم كان نبينا -فخر الكون- القدوة الرائعة، والأسوة الحسنة، في علو همته وشجاعته وإقدامه، وقد ثبت أنه كان إذا حمي الوطيس في الحرب، كان أكثر الناس شجاعة، وأعظمهم إقدامًا، وأعلاهم همة، حتى أنه قاد بنفسه خلال عشر سنين سبعا وعشرين غزوة، وكان يتمنى أن يقوم بنفسه على كل البعوث التي بعثها والسرايا التي سيرها، وكان صلى الله عليه وسلم القدوة ايضا وعلو الهمة في عبادته: فعن عائشة قالت كان رسول الله إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: ﴿يا عائشة أفلا أكون عبدا شكورًا).
كذلك ضربوا لنا الصحابة رضي الله عنهم أروع وأبدع الأمثلة في الهمة العالية، سواء كان في الجهاد في سبيل الله، والتضحية في سبيل الدين، أو في طلب العلم، وغير ذلك، من علو همتهم في طلب العلم، كان أبوهريرة، وعمر بن الخطاب، وعبدالله بن عباس، وزيد بن ثابت، وعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال إني والله ما آمن يهود على كتابي، قال: فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له، قال: فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم.
وفى الطاعات تسابق فقراء المهاجرين إلى علو الهمة، وهذا "عُمَيْرُ بن الحُمَامِ الأنصارِي" يضرب لنا مثلا فريدا في علو همته في الجهاد وإعلاء كلمة الدين، حين نادى رسول الله: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض﴾، فرمى من يديه تمرات كان يأكلها قائلا: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر، ثم قاتل المشركين حتى قتل﴾، أما قصص التابعين في علو همتهم فكثيرة ويضيق المقام بذكرها.
وأذكرك ونفسي –قارئي الكريم- أنه لكي نرتقى بهممنا علوا لشأن وطننا، علينا بالعمل، والعلم، والدعاء، وتذكر نبينا الكريم وصحابته الكرام، وما قدموه من نماذج عالية، وتفعيل دور الوالدين في التربية البناءة، القائمة على كريم الخلال وحميد الخصال، ومصاحبة أصحاب الهمم، والتماس أفعالهم وخصالهم، تاركين ونابذين المعاصي، والغفلة، وإهدار الوقت، والوهن، والتسويف والتمني، ومجالسة المخذلين والمثبطين.
ختام قولي: إن الأمة اليوم في أمس الحاجة إلى المخلصين من أبنائها الذين يغيرون مجرى الحياة بعلو همتهم، وقوة عزيمتهم، الواصلين السير بالسُرى، القائمين على العطاء والبذل، رفعا لشأن أمتنا ووطننا، ويقيني أنهم موجودون بكثرة فى كل شبر من بلادنا الطيبة، فهل من مشمر، تعز به أوطاننا، ويفيض بهم الخير والنماء فيه، أسأل الله تعالى أن يقينا شر أنفسنا، ويلهمنا رشدنا، ويقوي إرادتنا.