رجل من رجالات العصر الحديث، وأحد العلامات البارزة المميزة لتلك الفترة من فترات الأمة العربية والإسلامية، أحد رموز التجديد، سواء تجديد الفكر والتفكير الديني أو تجديد وإعادة هيكلة العقل العربي بغية المواكبة والمعاصرة، فعز عليه أن يكون العالم في ناحية بمدنيته الحديثة وعالمنا العربي يرزح تحت وطأة أفكار رجعية تقليدية، فأراد أن يوظف ما تعلمه من علوم شرعية أو علوم نظرية في جامعة السوربون أو جامعة ليون بفرنسا، أراد أن ينتقل بفكرنا إلى المدنية الحديثة مع عدم العبث بهويتنا العربية والإسلامية، فأراد أن يجمع بين الحسنيين دونما إفراط أو تفريط، فعلى الرغم من أنه تتلمذ على يدي بعض المستشرقين الفرنسيين مثل أستاذه لامبيير إلا إنه لم ينقد خلفه في الهجوم على ديننا وثوابتنا.
الرجل تتلمذ تلمذة مباشرة على يدي شيخ المجددين محمد عبده قبل سفره إلى فرنسا، فدرس علم التوحيد، وناقش على يديه أدلة وجود الله ووحدانيته، موفقا بين معطيات العقل وما يقدمه الشرع من أدلة حول هذا الموضوع.
من الشيخ مصطفى عبدالرازق؟
الشيخ مصطفى عبدالرازق شيخ الجامع الأزهر الشريف مجدد الفلسفة الإسلامية في العصر الحديث، صاحب أول تأريخ لها بالعربية ومؤسس المدرسة الفلسفية العربية التي أقامها على أسس إسلامية خالصة.
ولد مصطفى عبدالرازق سنة ١٨٨٥ م في قرية أبوجرج التابعة لمركز بني مزار بمحافظة المنيا بصعيد مصر.
كان والده الشيخ حسن عبدالرازق عضوًا بالمجالس شبه النيابية التي عرفتها مصر منذ عصر الخديو إسماعيل، وكذلك من مؤسسي جريدة "الجريدة" و"حزب الأمة".
حفظ القرآن الكريم في صغره، وانتقل إلى القاهرة ليحصل علومه الشرعية واللغوية في الأزهر الشريف، درس الفقه الشافعي وعلوم البلاغة والمنطق والأدب والنحو، بدأ يتردد عام ١٩٠٣م على دروس الإمام محمد عبده فتأثر بمنهجه الإصلاحي.
بعد ذلك سافر إلى باريس والتحق بجامعة السوربون درس الفلسفة، ودرس علم الاجتماع على يد دوركايم، ثم انتقل إلى جامعة ليون ليدرس أصول الشريعة الإسلامية على يد أستاذه لايمبيير عاد إلى مصر عام ١٩١٤م.
عين موظفًا بالمجلس الأعلى للأزهر ومفتشًا بالمحاكم الشرعية، ثم مدرسًا للفلسفة بالجامعة المصرية، ثم وزيرًا للأوقاف مرتين، ثم عين شيخًت للأزهر خلفًا للإمام المراغي عام ١٩٤٥.
أهم مؤلفاته، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، وكتاب فيلسوف العرب، والمعلم الثاني، وكتاب الإمام الشافعي، وكتاب الشيخ محمد عبده.
وافته المنية عام ١٩٤٧م.
اعتنى الشيخ عناية فائقة بكتابات المستشرقين خصوصًا ما يتعلق بالحضارة العربية والإسلامية وما أثاره بعضهم من فريات وشبهات تتعلق بالفكر الإسلامي، شأنه في ذلك شأن عبدالحليم محمود ومن قبلهما أمين الخولي وزكي نجيب محمود وتوفيق الطويل ومالك بن نبي، فعلى الرغم من أن كلا من هؤلاء انتهج نهجًا خاصا به إلا إنهم جميعًا اتفقوا حول غاية واحدة؛ ألا وهي عدم تغريبنا عن هويتنا وديننا وفكرنا الإسلامي، مع الأخذ فى الاعتبار عدم رفض المدنية الحديثة والمواكبة والمعاصرة، شريطة ألا تخل هذه الأضواء الغربية بثوابتنا.
انبرى مصطفى عبدالرازق، في كتابه تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، للرد على فريات أحد المستشرقين غير المنصفين، ويسمى إرنست رينان ومن شايعه؛ سواء من الغرب أو من العرب أنفسهم، انبرى للتصدى لهؤلاء؛ وذلك من خلال فريتهم الشنيعة، التي ادعوا فيها قصور العقل العربي عن التفكير، وأن العقل العربي لا يستطيع أن يقدم جديدًا، ويحتاج إلى من يفكر له، وأن الغرب هم أساس الفكر، وأن التفكير الإنساني خلق عبقري يوناني أصيل، وما العرب والمسلمين إلا ناقلين عنهم.
بل وبلغت شناعاتهم إلى حد القول إنهم حتى لو فكروا، فإن تفكيرهم لا يتجاوز اللهم إلا الربط بين الظواهر المتشابهة، وهذا العجز الذي هم فيه نتيجة إيمانهم بفكرة وحدانية الإله وطرحهم فكرة التعددية.
ليس إلى هذا الحد فحسب؛ بل وتقسيمهم الشعوب إلى آرية غربية متفتحة، وسامية متخلفة هي الشعوب الشرقية، ومنها الشعوب العربية والإسلامية.
ومن هنا شمر الرجل ساعد الجد لتفنيد هذه الحجج الواهية ودحضها فرية فرية، مثبتًا تألق العرب فى كل المجالات والفنون والعلوم مستشهدًا بعلمائنا الأفاضل في كل صنوف المعارف، ليس هذا فحسب؛ بل رفض عنصريتهم البغيضة، فكيف بأبناء العصر الحديث يتحدثون عن الطبقية والعنصرية، كيف بأنصار الحرية والمساواة يذهبون إلى هذه العنصرية البغيضة التي لا يرتضيها منطق العقل، وترفضها الأديان والشرائع.
كذلك تصدى الرجل إلى فكرة قصور العقل العربي عن التفكير مفندًا هذه الفرية قائلا: لماذا استمر فكر ابن رشد يدرس فى الغرب اللاتيني، لماذا ظل فكر ابن جبيرول وموسى بن ميمون يدرس في جامعات أوروبا.
كذلك تصدى للدفاع عن أن سبب نكبة العرب، على حد زعمهم، الإيمان بوحدانية الإله وطرح التعددية، إله واحد يعبد أم أكثر من إله؟!
الرجل أسس مدرسة حداثية مستنيرة رائدها العقل وفي نفس الوقت لا يرفض النقل، فعقل بدون نقل لا يستقيم، ونقل بدون عقل لا يفهم.
إنه مصطفى عبدالرازق الفيلسوف الأديب الأريب صاحب الأيدي البيضاء على أمتنا العربية والإسلامية.
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان