استغرق قطاع الهواتف الثابتة نحو 75 عاما لجذب 100 مليون مستخدم على مستوى العالم. بينما حققت الهواتف المحمولة هذا الإنجاز خلال 16 عاما، والإنترنت في 7 سنوات فقط.
وعلى مستوى التطبيقات الذكية، انتظر "إنستجرام" عامين ونصف العام للوصول إلى 100 مليون مستخدم، و"تيك توك" 9 أشهر للوصول إلى العدد نفسه.
في المقابل، وصل شات جي بي تي، روبوت الدردشة الشهير من أوبن إيه آي إلى 100 مليون مستخدم نشط شهريا في يناير 2023، بعد شهرين فقط من إطلاقه، مما يجعله التطبيق الأسرع نموا في التاريخ.
هذا الانتشار غير المسبوق لـ شات جي بي تي يبين لنا السرعة التي تغلغلت بها التكنولوجيا في حياتنا، ويسلط معدل الاستخدام غير المسبوق لهذا البرنامج، الضوء على الإمكانات الهائلة للذكاء الاصطناعي، كما يمهد الطريق أيضا لتحول كبير في مجالي التكنولوجيا والاقتصاد العالميين.
يوفر الذكاء الاصطناعي التوليدي فرصا هائلة، وله استخدامات كثيرة ومتنوعة في الصناعات والمجالات، ومنها الفن، والكتابة، وتطوير البرمجيات، وتصميم المنتجات، والرعاية الصحية، والتعليم، والتمويل، والألعاب، والتسويق، والموضة والأزياء.
إمكانات الذكاء الاصطناعي
في مجال التعليم يمكننا باستخدام الذكاء الاصطناعي، سد الفجوات الناجمة عن نقص المعلمين، فهناك حاجة ماسة إلى 58 مليون معلم إضافي على مستوى العالم. وفي عام 2019، بلغ متوسط نسبة التلاميذ إلى المعلمين على مستوى المدارس الثانوية في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 13، ولكن في البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى والبلدان المنخفضة الدخل بلغ هذا المعدل 22. تعتبر أنظمة التدريس الذكية والتعلم الشخصي من الابتكارات الضرورية لتوفير التعليم للجميع. ففي أوغندا، ساعد الذكاء الاصطناعي في توفير التعليم الإلزامي والخدمات المجانية لمواطني المجتمعات الريفية، بينما في الهند، يسجل الطلاب الذين يستخدمون البرامج المدعومة بالذكاء الاصطناعي درجات أعلى في اللغة الهندية والرياضيات.
وفي قطاع الرعاية الصحية، توصي منظمة الصحة العالمية بوجود ما لا يقل عن 45 طبيبا وممرضة وقابلة لكل 10000 شخص. ومع ذلك، فإن العديد من البلدان المنخفضة الدخل لديها ربع هذا العدد فقط. لكن التكنولوجيا يمكن أن تساعد في مواجهة هذا التحدي. إذ يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي لدعم توصيات التشخيص والعلاج.
ويساعد استخدام الذكاء الاصطناعي بمجال الخدمات العامة والشمول المالي في تبسيط عمليات تحصيل الضرائب والتحويلات المالية وتوسيع نطاق الخدمات المصرفية إلى المناطق النائية، كما يعزز الحوكمة والتمكين المالي. على سبيل المثال، في توغو، قام الذكاء الاصطناعي بتحسين استهداف برنامج التحويلات النقدية، مما ساعد على التأكد من إنفاق الأموال على من هم في أمس الحاجة إليها.
كما يمكن للذكاء الاصطناعي تعزيز الإنتاجية من خلال أتمتة المهام وتحسين العمليات والمساعدة في اتخاذ القرار. تشير دراسة حديثة لمجموعة بوسطن الاستشارية إلى أن المستشارين الذين يستخدمون الذكاء الاصطناعي التوليدي أكملوا مهام أكثر بنسبة 12% في المتوسط بل وبسرعة أكبر بنسبة 25%.
الوجه الآخر للتكنولوجيا
على الرغم من الفوائد، فإن الذكاء الاصطناعي يجلب أيضا موجة من التحديات، خاصة للدول النامية، لعل أبرزها فقدان الوظائف وتعميق هوة عدم المساواة، واتساع الفجوة بين الشمال والجنوب.
فالمكاسب المحققة من الذكاء الاصطناعي تستأثر بها البلدان المتقدمة وكبريات شركات التكنولوجيا، وقد يؤدي ذلك إلى تركز التقنيات الجديدة في قبضة عدد قليل من الشركات العالمية العملاقة.
ويقدر تقرير لجولدمان ساكس أن الذكاء الاصطناعي يزيد النمو السنوي لإنتاجية العمالة في الولايات المتحدة بنسبة 1.5 نقطة مئوية على مدى 10 سنوات بعد اعتماده على نطاق واسع، وهي أعلى وتيرة منذ الحرب العالمية الثانية.
وتقدر القيمة السوقية لأكبر خمس شركات للتكنولوجيا تستثمر بكثافة في الذكاء الاصطناعي، وهي مايكروسوفت وآبل وإنفيديا وجوجل وميتا على الترتيب، نحو 13.109 تريليون دولار وفقا لإغلاق بورصة نيويورك يوم الجمعة الماضي، وهذه القيمة تعادل أكثر من نصف حجم الاقتصاد الأمريكي البالغ 25.439 تريليون دولار.
وهذا الوضع يهدد بتوسيع فجوة الدخل حيث تجني الدول الرائدة معظم الفوائد، تاركة الدول النامية وراءها. علاوة على ذلك، قد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تآكل الميزة التنافسية للعديد من الاقتصادات النامية التي تعتمد على العمالة الرخيصة.
وخلص بحث أجراه صندوق النقد إلى أن التكنولوجيا الجديدة تجلب معها مخاطر اتساع الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة عن طريق تحويل مزيد من الاستثمارات إلى الاقتصادات المتقدمة التي أصبحت الأتمتة فيها سمة مستقرة. وبالتالي، قد تنشأ عن ذلك عواقب سلبية على الوظائف في البلدان النامية لأنه يهدد بإحلال قوتها العاملة المتنامية بدلا من أن يكون مكملا لها، وهي التي عادة ما كانت تمثل ميزة في الاقتصادات الأقل تقدما.
الولوج إلى الإنترنت
يمثل الافتقار إلى الاتصال عالي السرعة بالإنترنت في أقل البلدان نمواً تحدياً كبيراً. ويحد هذا إلى الوصول لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في مجالات التعليم والصحة والتمويل وغيرها من القطاعات فضلاً عن شبكات المعرفة العالمية والإقليمية.
فهناك نحو 2.6 مليار شخص محرومون حول العالم من خدمات الإنترنت، وفقا لإحصائيات الاتحاد الدولي للاتصالات لعام 2023.
وعلى الرغم من أن نحو 90% من الناس في البلدان مرتفعة الدخل استخدموا الإنترنت عام 2022، فإن واحداً فقط من كل أربعة في البلدان منخفضة الدخل استخدم الإنترنت.
تواجه معظم أقل البلدان نمواً صعوبات كبيرة في إتاحة الوصول إلى إنترنت النطاق العريض وبأسعار معقولة للجميع.
ويشير تقرير صادر عن البنك الدولي إلى تجاوز متوسط نصيب الفرد من الاتصالات عريضة النطاق للهواتف المحمولة في البلدان الأكثر ثراءً نظيره في البلدان منخفضة الدخل بنحو 20 مرة، وحركة الاتصالات عريضة النطاق للهواتف الثابتة بأكثر من 1700 مرة. وفي عام 2023، كانت القيمة الوسيطة لسرعات خدمات النطاق العريض للهواتف الثابتة والمحمولة أسرع بخمس إلى عشر مرات في البلدان ذات الدخل المرتفع مقارنة بالبلدان ذات الدخل المنخفض.
وظلت الأسعار أعلى بكثير بالنسبة للفئات الفقيرة، حيث شكلت القيمة الوسيطة لأسعار خدمات النطاق العريض للهواتف الثابتة في البلدان منخفضة الدخل ثلث الدخل الشهري في عام 2022. وحتى أرخص الهواتف الذكية يمثل أكثر من 14% من الدخل السنوي للأشخاص الذين يعيشون على أقل من دولارين للفرد في اليوم الواحد. وتعد تكلفة الاتصال بالإنترنت الأغلى في إفريقيا، في حين يعد الإقبال على الخدمات المالية الرقمية الأدنى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وفي عام 2022، استحوذت البلدان مرتفعة الدخل على نحو 60% من مراكز تبادل حركة الإنترنت العامة على مستوى العالم وعلى نحو ثلاثة أرباع مراكز البيانات المتصلة، مقارنة بنسبة 2% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا و7% في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء. وهناك نحو 51 بلداً، تمثل 5% من سكان العالم، لا يمكنها الوصول إلى مراكز تبادل حركة الإنترنت.
التعاون الدولي
إن الذكاء الاصطناعي عابر للحدود، لذا هناك حاجة ماسة إلى التعاون الدولي لتعظيم الفرص الهائلة التي تتيحها هذه التكنولوجيا، مع الحد في الوقت ذاته من ضررها على المجتمعات النامية.
ولردم الفجوة المتزايدة بين الشمال والجنوب في مجال الذكاء الاصطناعي، سيكون على صناع السياسات في الاقتصادات النامية اتخاذ إجراءات لرفع الإنتاجية وتحسين مهارات العاملين.
كما تحتاج الدول النامية أيضا إلى الموارد اللازمة لضمان ولوج الجميع إلى خدمات الإنترنت واكتسابهم المهارات الرقمية، وعلى هذه البلدان أن تضمن ألا تؤدي الفجوة الرقمية إلى تفاقم عدم المساواة في إمكانية الحصول على هذه الأنواع الجديدة من الوظائف.
فالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المختلفة أصبح خيارا حتميا للدول النامية للخروج من دائرة التخلف والتهميش الاقتصادي وتحقيق متطلبات التنمية المستدامة.