ما أقسى نوبات الخذلان!

22-6-2024 | 09:47

قالت لي وهى شاردة الذهن منكسرة الوجدان: "تخيفني جدًا يا صديقتي فكرة الاستغناء والابتعاد المفاجئ من دون إبداء الأسباب، لدرجة تجعلني أحسب لها الكثير من الحسابات، وأسعى بنفسي لتقليص عدد كبير من الصداقات؛ خاصةً تلك التي تبدأ بدعم نفسى مطلق، وانبهار بالغ بكل ما آتي به من أعمال، فهى ما تلبث أن تتغير وتتبدل؛ تصبح أوهامًا وتمسي ذكريات، تستقر في نهاية المطاف بمكان اسمه "خبر كان".

كان حديثها معي محفوفًا بخوف شديد من مزاجية تصيب البعض أحيانًا، أو ربما من حالات ملل تنتشر بيننا الآن، تزداد حدتها خاصةً في هذا الزمان، فأحاول أن أخفف عنها وأجمع لها من الكلمات أجملها عساها أن تمكنني من خفض نسبة توترها وقلقها، ثم أحاول بعدها تقديم النصح لها، قائلةً: "يا عزيزتي احذري الاندفاع في البوح بكل ما لديك من مشاعر دفعة واحدة، تجنبي تدفق الأحاسيس، جففي منابع الثقة المطلقة باستمرار، فالكلمات لم تعد صادقة لتصل إلى حد الاطمئنان، فمن يتحدثون بها بطلاقة تعلموا قواعد السحر وأجادوا فنون البيان؛ تذكري على الدوام أنهم لا يقدمون شيئًا لأحد بالمجان.  

تمكنت من اجتذابها للحديث عما يؤلمها بشفافية تامة، فانهمرت دموعها كالأنهار، لابد أنها استعادت ذكرى مشاهد مؤلمة مرت بها، مشاهد توثق لعدد هائل من إخفاقات وعدد أكبر من حالات خذلان، أجد نفسي تسارع لتطييب خاطرها، فما أقسى هذا الشعور الذي يراودها الآن! فأنا من عاهدت نفسي على مشاركتها جرح قلبها الغائر وأقتسم معها غصة ألقت بكل ثقلها في أعماق الوجدان، قلت لها: "من أدراكِ بأنك أنتِ الوحيدة التي تعرضت لمثل هذه المواقف ولمثل هذه الأفعال؟ 

انفرجت أساريرها شيئًا فشيئًا، وأدركت بذكائها الجم، وفطرتها الجامحة أن للحديث بقية، فالأمر يبدو أنه لن يتوقف عند هذا القدر من النقاش، ما دام الحدث يتكرر وما دامت الحياة تأتينا يوميًا بالعديد من قصص التخلي والاستغناء؛ لعلها أدركت هذا تمامًا وأرادت أن تتذكر ما دار بيني وبينها من حديث حوى فيه مخزون من التجارب  والعظات. 

إن كل إنسان يطوي بداخله جرحًا عميقًا يضطر لإخفائه خجلًا، كي لا يتهم بالغفلة، يكتم شعوره بالألم ويتوارى بقدر استطاعته بعيدًا عن أعين الناس، فهو يعلم أن هناك من يتوق شوقًا للقيام بإحصاء عدد مرات فشله، وهناك من سيتبرع بجمعها وطرحها بعد ذلك بالمجان، ومنهم من سيهلل مستبشرًا راجيًا من السماء زيادة ووفرة في الأعداد. 

كلنا نتعرض للمحن التي تنجح في اختراقنا غالبًا أو أحيانًا، فهى تتعمد أن تصيب قلوبنا مباشرة، تكاد أن تذهب بعقولنا أو تدفع بها لخوض العديد من معارك الهذيان، محنة فقدان الثقة فيمن حولنا تجعلنا نستنكر بشدة رهافة أحاسيسنا، ونشجب بغضب أشد حسن نوايانا.

ندرس بعدها الأمر من كافة أوجهه، نستنبط منه الدروس والعبر؛ برغبة جامحة منا في الحفاظ على سلام أنفسنا ووقايتها من الشرور، وإن خضع هذا لمشاهد استباقية لمواقف وأحداث، إنه حقي وحقك وحق الجميع في عدم حسن الظن الكامل بكل عابر، فليس هناك أشق على النفس من تحمل المزيد من نوبات الخذلان.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: