لم تتملكنى كل تلك المشاعر دفعة واحدة من قبل! حماس، تساؤل، رهبة، توجس، سعادة، حنين، امتنان، وانطلاق.. كلها تكاد تتوازى وتناطح بعضها بعضًا، كيف لا وأنا أخطو بخطوات هادئة نحو مساحة استثنائية، شهدت وعاصرت الكثير، شخصيات وأحداثًا وأسماء وتاريخًا له شنّة ورنّة، لم أكن أحلم يومًا بأن أكون ساكنتها الشرعية لبعض الوقت، لكن القدر قادر ومقتدر، وقد كتب لى منذ ما يقرب من خمسة وعشرين عامًا أن أدخل إلى عالم الصحافة من بوابة «البيت» بكل بهائها وألَقِها، ولم تَخْبُ شرارة شغفى بها عبر كل تلك السنين ولو للحظة، بل كانت دائمًا مُلهمتى وأنا ملهمتها، بيننا سجال من الأخذ والرد، الندية والود، ودائماً ما كانت ولا تزال طاقة نور.
لكن قدرة القدر أخذت خطواتي نحو غرفة شهيرة بالطابق الخامس، من هنا تدار «نصف الدنيا»، وأخذتني نحو دنيا لا أول لها ولا آخر من الحكايات والأسرار والإلهام، فهذا المكان ذو الجدران المكسوّة بالخشب الفاخر قد شهد وعاصر إبداعات عمالقة مصر، نجيب محفوظ، إحسان عبدالقدوس، يوسف إدريس، أحمد بهاء الدين، رجاء النقاش وغيرهم من الكبار فالقائمة تطول، من هنا خرجت مجلة نصف الدنيا للحياة عام ١٩٩٠ في ميلادها الأول، آنذاك، سكنَ نفس هذه الغرفة الكاتبة الصحفية الكبيرة والمؤسس سناء البيسي، ورحبت منها بميلاد ابنتها حبيبتها الأولى قائلة «أهلاً بنصف الدنيا!» ووصفت مرحلة إعدادها بأنها «رحلة العذاب الحلو».. أعدت قراءة ما كتبت الأستاذة عدة مرات، تأملت، وتهيأت، واستبشرت الخير والبركة فيما هو قادم.
لم تتسلل إلىّ مشاعر الرهبة أو الغربة أبدًا، بل شعرت بالفخر والاعتزاز والانتماء، وكأنما ألِفَت روحي المكان منذ النظرة الأولى والجلسة الأولى والطلّة الأولى، وكانت أولى خطواتى بعد أن دخلته برجلي اليمين، أن أعدت أمرين إلى نصابهما، عاد المكتب ليستقر داخل الغرفة فى موقعه الأصلى يسار الشبّاك البانورامى المطل على شارع الجلاء، وعاد اللوجو الأساسى بطلّته المميزة وتفاحته الحمراء ليتوج جبين أيقونة الصحافة المصرية، خطوة وجدتها ضرورية بعد أن غاب وتحول وتغير خلال سنوات عمره الطويلة، لكننى أؤمن بأن الجذور هي الأرض الصلبة التي لابد أن نقف عليها لصياغة دفعة نحو المستقبل بثوب جديد، ولا يصح إلا الصحيح.
ومن قدرة القدر أنه يجمعنا بأشخاص محوريين خلال مشوارنا فى الحياة، ويمد بيننا بخيط من الوصال لا ينقطع، حتى وإن لم يكونوا الأقرب، لكن وجودهم محورى وفارق، هذا هو الخيط الممتد بينى وبين القديرة سناء البيسى، تقابلنا للمرة الأولى فى عام ٢.١٣ حين ترأسَت لجنة ديمقراطية كانت الأولى والوحيدة من نوعها لاختيار رئيس تحرير تنفيذى لمجلة البيت وهى لحظة لم تتكرر فى تاريخ الأهرام، التقينا حينها عبر جلسة الاختيار مع اللجنة ولم تمتد أكثر من ربع ساعة، كنت ضمن أكثر من عشرين متقدماً برؤية صحفية للتطوير، كتبت أفكارى وآمالي وطموحاتي بصدق وعشق وإخلاص، وكانت المفاجأة أن خرجت اللجنة باختياري بالإجماع، لأبدأ رحلة المشوار المهني الأهم والأصعب، وقد حافظنا على التواصل منذ ذلك الحين، واليوم ألتقى فى لحظة فارقة أخرى بالأستاذة سناء البيسى عبر «نصف الدنيا» محبوبتها ومحبوبتى، لأشعر وكأنما وضعت أمانة كبيرة فى عنقى، فلابد أن تخرج كما تأسست، وأقتبس كلمات الأستاذة «رسالة نصف الدنيا هى أن التفاؤل واجبنا والحلول بأيدينا والتغيير رسالتنا وهدفنا دعوة للحب وتمسك بقيم الأصالة ولفتة للجمال»، هكذا كانت دائماً وهكذا ستكون.
اليوم، تفتح «البيت» ذراعيها بحب لتضم إليها «نصف الدنيا»، ملكة القلوب المتوّجة، وست الكل المدلّلة، وصاحبة البصمة على جبين أجيال وأجيال من أهل أم الدنيا، فكل منهما كانت منذ سنتها الأولى شرياناً لا ولم ولن يكف عن ضخ إكسير الحياة والعقل والقيم والذوق. اليوم تتألق شخصيتهما الجذابة الناضجة، وإن آن الأوان لتكونا معاً على قلب وفكر وروح واحدة، متكاتفتين ومتكاملتين، ولِمَ لا؟
هذا ما تبنته رؤية الهيئة الوطنية للصحافة عند إصدارها قرارًا حكيمًا واعيًا بتحديات العصر، بأن تخرج البيت ونصف الدنيا معًا متحدتين فى ثوب واحد، مجلة ثرية ومتنوعة تخاطب المجتمع بأطيافه وتلقى الضوء على الإبداع، تُمتع العين والقلب والعقل، فكلتاهما مولودة من نفس الرحم الخصب، مؤسسة الأهرام الصحفية العريقة والضاربة بجذورها عبر ١٤٨ عاماً ويزيد، الحصن الحصين للصحافة، المحارب والصامد، فهنا وهنا فقط قد تقف الدنيا وتقعد من أجل كلمة وإعراب ومرادف وفاصلة وتشكيل وعنوان..
المهمة مركبة، وهى تحدٍ حقيقى، ويالها من ثقة غالية وشرف كبير أن يتم تكليفى بتوليها، شعرت حينها بمسئولية مضاعفة، صحيح أن كلاً منهما تحمل تاريخًا مدهشًا لكنهما معاً قادرتان على تحدي الزمن وتقلباته الاقتصادية الشرسة، هي بالتأكيد تجربة استثنائية، بُنيت على عشق تفاصيل كل من المطبوعتين الأثيرتين وغزلهما معًا فى نسيج صحفى متناغم، والهدف الأول والأخير هو متعتك أنت القارئ صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وشاغل البال دائمًا وأبدًا.
أهلًا بالبيت ونصف الدنيا معًا.. لكل الدنيا