بداية وحتى لا تظن بنا الظنون - وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا.
حتى لا يتهمنا أحد بأننا لا نؤمن بالعالم الآخر الذي يقف خلف هذا العالم الذي نحياه.
فرب سائل يسأل لماذا الخوض في مثل هذه الموضوعات الشائكة الحساسة التي قد تقحم المرء في مجاهل لا يستطيع العودة منها، مجاهل قد يحار العقل في سككها ومسالكها ودروبها، خصوصًا وأن مثل هذا الموضوع حسم الدين فيها فصل الخطاب، لكن العقل لا تهدأ ثائرته أبدًا فدائمًا يتوق إلى المعرفة واكتشاف المجهول، وهذا دأب وديدن الأبحاث عن اليقين المعرفي.
فما المقصود بالميتافيزيقا، المقصود بها ما وراء الطبيعة، أي ما وراء هذا العالم الذي نحياه، عكسها البيتافيزيقا أي العالم الطبيعي الذي نعيش فيه بكل ظواهره،
إنها سنة كونية، ألا وهي إعمال العقل، فالعقل نشط فعال يحب أن يستكشف المجهول، وهذه طبيعته التي تميز بها، بل وميزت إنسانًا عن آخر، إنسان ذهنه متقد شغول شغوف بالبحث، وهذا ما يميز إنسانًا عن آخر، فهناك من يستعمل عقله في إشباع شهواته وغزائزه وهو أشبه ما يكون بالأنعام.
وهناك من يعطل عقله مغيبًا إياه طيلة أوقاته، فلا يستطيع حتى التمييز بين الليل والنهار، تاركًا الدنيا بما فيها على ما فيها، ليس زاهدًا أو متصوفًا أو متعبدًا فى محاريب الحبيب الحب بكل صوره واسمائه، لكنه يقضي وقته مغيبًا مصابًا بداء اللامبالاة لا يهتم بشيء هائمًا على وجه أشعث أغبر، وإذا سألته لا يجيبك حتى وإن قلت له لم حياتك؟ وما تريد منها؟ لن يرد عليك بأي كلام معقول.
أما العقل الآخر فهو دومًا كثير السؤال عن العالم الآخر، عالم المجردات؟ وهل حقًا له وجود؟ وإذا كان موجودًا فلم لا نعلمه؟ وهل هناك قوى عليا تسيطر على عالمنا الأرضي أم محض خيالات أو ميثولوجيا؟ أساطير وخرافات، وأنه ليس ثم عالم إلا عالمنا المرئي الحسي المشاهد، وأنه ليس ثمة حياة أخرى تنتظرنا بعد فنائنا، وهل هذا الفناء يعقبه بقاء، وإذا كان ثم بقاء، فهل هو بقاء خلود أم بقاء وقتي، وهل البقاء إن حدث سيكون للجسد أم للنفس أم لهما معا؟!
وهنا يأتي دور العقل، فهناك من نحا نحو الأسطورة، وهناك من أرجع عالمنا إلى عالم آخر مهيمن عليه، عالم المثل، وهناك من أرجع العالم الآخر إلى الآلهة، وثم رأي آخر ذهب إلى قوة المطلق، والموناد القوة الفعالة السارية في جسد الكون.
وهنا يأتي دور الدين، والفلسفة، أما الدين فأتى ليخلص الإنسان من قلقه وحيرته وشكه خصوصًا في مثل هذه الموضوعات المجردة معتمدًا على ما قدمته النصوص من أن هناك عالمًا آخر ينتظرنا، عالمًا مثاليًا، عالم الحق، والخير والجمال، والجنة والنار والسؤال والبعث، بالروح والجسد، ومملكة سماء فيها تتحقق السعادة القصوى، كما ورد فى القرآن الكريم والإنجيل، لكن يظل العقل القلق بحاثًا حيرانًا، يريد أن يقتنع، فيصل بعقله إلى خرافة الميتافيزيقا، وأن كل ما نسمعه من الخطباء وكل ما نقرأه ما هو إلا محض خيال، لا يرقي إلى مرحلة الإدراك واليقين المعرفي.
وهنا يهب الفلاسفة محاولين تخليص الإنسان من أوهامه وشكوكه للوصول به إلى الإدراك، وهنا يأتي دور الفلسفة بتعريفاتها الفلسفية، فهي "حب الحكمة"، والحكمة تقضي بحتمية وجود قوى عليا هي التي أوجدت هذا الكون، فكل ما فيه من نظام ودقة وعناية لا يمكن أن يكون محض مصادفة أو اتفاقًا، فسماء متلألئة بنجومها الزاهرة وكواكبها المضيئة وشموسها وسرجها الوهاجة دليل دامغ على وجود هذه القوة السارية في جسد هذا الكون.
والأرض بسبلها وفجاجها وأنهارها وأشجارها وزروعها وإنسها وجنها خير دليل على وجود هذه القوى.
إذن بات الأمر ملحًا للوصول إلى معرفة هذه القوة المهيمنة على هذا الكون، فيأتي تعريف الفلسفة وهو: "البحث عن العلة الأولى والسبب الأعظم الذي يقف خلف هذه الترسيمة الكونية".
لكن العقل يقول هل من مزيد، أريد الاستزادة فنهمي وشغفي إلى المعرفة يزداد، يرد عليه الفلاسفة مقسمين الدرس الفلسفي إلى ثلاثة أقسام، القسم المعرفي، والقسم الوجودي، والقسم القيمي، ويبقى الإنسان بعقله الحائر متنقلا بين هذه الأقسام الثلاثة، فمعارفه محدودة محصورة في نطاق المعطيات الإدراكية الحسية، فيظل شاكًا فى إمكانية قيام معرفة يقينية، فيذهب به الفلاسفة إلى القسم الوجودي، محاولين وضع حدٍ لشكوكه، موضحين أن ثم فرقًا بين العالم والكون فما العالم إلا جزء من الكون، فالكون يشمل عالم ما فوق فلك القمر، الإله، الملائكة، الجن، القلم، اللوح، الكرسي، العرش، الحوض، الصراط، الجنة، ما ذهب إليه فلاسفة الإسلام على سبيل المثال.
وعالم ما تحت فلك القمر بكل ما في العالم الطبيعي المرئي الحسي المشاهد محل البحث والدرس.
وما الميتافيزيقا إلا قسم من هذا المبحث أو القسم الوجودي، إذن الفلاسفة اثبتوا أن الميتافيزيقا خاضعة للدراسة، وهذا ما ذهب إليه إيمانويل كانط الذي قال بعالمين عالم الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها، وما ذهب إليه هوسرل من أن الميتافيزيقا أو العالم الآخر فكرة في الذهن محل الدراسة والنقد والتمحيص.
وهذا بدوره فتح مجالا للدراسات الصوفية القائمة على العقل، فما ذهب إليه ليبنتز من أن العالم يخضع لقوة سارية تسيطر عليه وتدبره وهو ما ذهب إليه محيي الدين بن عربي من أن الكون بكل ما فيه مظهر من مظاهر التجلي واللطف الإلهي، لكن كل ذلك لا ينطلي على العقل أيضًا الذي دأبه وديدنه إصابة الحق، وهنا يذهب به الفلاسفة إلى القسم الثالث، القيم، الحق، الخير، الجمال، فيوظف جهوده لمدارسة هذه القيم الثلاثة التي هي صور مصغرة للقيم العليا التي توجد في العالم الآخر، حتى لو كان وجوده وجودًا افتراضيًا، لكن ثم أمر وحادث جلل يدفع الإنسان دفعًا إلى مدارسة هذه القيم الثلاثة، هذا الأمر الجلل محاولة استكشاف العالم المجرد الآخر من خلال الإنسان نفسه الذي هو عالم أصغر يعيش في عالم أكبر، يسكن داخله عالم أعظم ينتمي إليه بنفسه المفارقة التي كانت تحيا فيه، فينتمي بروحه إلى العالم المجرد، وينتمي بطينته وهيئته المادية الطينية إلى العالم الأرضي، ومن ثم فهو يجمع بين الجمعين الروح والمادة، الفاني والباقي، لكنه يظل في قلق وحيرة يريد أن يطمئن إلى حاله وإلى مآله.
إن الإنسان المعاصر الذي لا يختلف بحال من الأحوال عن طبيعة الإنسان على مر العصور منذ بدء خلقه، دأبه وديدنه إثارة التساؤل، الدهشة والحرية والقلق ميراثه على مر الأزمان، لكن ثم فارقًا لا أقول جوهريًا، وإنما مع تقدم العصور وحدوث طفرات في التقدم التقني والثورة المعلوماتية الرهيبة والذكاء الاصطناعي والميتافيرس وخلافه، أضحى الإنسان المعاصر قلقًا يخشى على مستقبله لا يعلم مصيره المحتوم، هل سيترك كل هذا التقدم الحداثي الاستناري ويذهب، لكن إلى أين؟ وهل ستتحقق له رفاهيته التي يحياها وما الضامن له؟
نعم الإنسان المعاصر اختلف بعض الشيء عن الإنسان التقليدي الكلاسيكي القديم، الإنسان المعاصر يشاهد أفلامًا تقوده إلى خيالات، يسبح معها بعقله فى فضاء افتراضي، ثم يعود محملًا بانطباعات هو لا يعرف هل هذه حقيقية أم محض خيال، ومن هنا بات الأمر ملحًا للتدخل الفوري لإعادة وضبط توازنه العقلي، وإقناعه أن عقولنا قاصرة لا يمكن لها أن تدرك الحقيقة كاملة، ومن ثم ينبغي عليها ألا تنجرف مع تيار الأوهام أو أحلام اليقظة، وإنما ثم عالم آخر عالم ميتافيزيقي لا يمكن بحال من الأحوال إدراك كنهه، لكنه ليس فكرة بل هو حقيقة، صحيح هو عالم مجردات، لكن لا ينبغي على عقولنا تجاهله.
ويبقى الإنسان بما هو كذلك قلقًا بحاثًا لا يهدأ أبدًا، وإذا ما هدأ قليلًا، يثور مرة أخرى بل مرات وآلاف المرات.
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان