عيدنا الكبير قادم، ومعه يأتي الخير وتأتي البركات..
ها هم الحجيج يستعدون ليوم التروية الذي يوافق يوم جمعة، وهو يوم عيد وحده، ثم للوقوف بعرفات، وقلوب المسلمين معهم تهفو للمناسك والشعائر المقدسة وكأنها تخطو مع خطوات الحجاج قدماً بقدم.
وكما هي السعادة الغامرة تتسرب من غلالة الحج الأبيض لقلوب مخبتة، فهي تفيض على وجوهٍ أضاءها حب الله تتابع من بعيد ولم يُكتب لها حجٌ هذا العام، وانعكست في مآقي عيونهم صورة البيت الحرام والحمائم البيضاء حوله تطوف تكاد تطير بقلوبٍ سمي بها الاشتياق..
والذي يجمع بين هؤلاء الذين فازوا بالقرب والتطواف، وبين أولئك الذين تأجلت زيارتهم لبيت الله، أنهم جميعاً يرفعون أكفهم في دعاء مشترك يبشر بقرب نصر غزة على أعدائها.
آيات وكرامات
منذ عام واحد، أي منذ الوقوف السابق للحجاج على عرفات يبتهلون، هل كان يقع في تصورهم أن يحدث لإسرائيل ما حدث؟
أن تنكسر شوكة الجيش الإسرائيلي الذي أوهم الجميع بأنه أقوى جيوش المنطقة؟ أو أن يصبح رئيس وزراء إسرائيل على رأس قائمة المطلوبين للجنائية الدولية؟ أو أن تشتعل آلاف الأفدنة في شمال إسرائيل، وتسقط الصواريخ على وسطها، ويتساقط الضباط والجنود وتحترق بهم دباباتهم وتنفجر بهم الأنفاق والمباني في الجنوب؟! أو أن يحدث كل هذا في أقل من عام؟!
أن ينقسم الداخل الإسرائيلي على ذاته انقساماً ينذر بخراب عاجل: ثلاثة وزراء ينسحبون من مجلس الحرب، و"الحريديم" يرفضون تجنيدهم في ظل نقص حاد في تعداد الكتائب المقاتلة، والشارع الإسرائيلي بين هارب من أتون الحرب وبين متظاهر يحاصر بيت نتنياهو مطالباً بصفقة. وهناك رأيان متباينان يقسمان الشارع ومجلس الحرب والقادة القدامَى، والبعد بين الرأيين كالبعد بين السماء والأرض: فمن قائل إن الهزيمة حدثت، وأن على إسرائيل جرّ أذيال الخيبة وإعلان هدنة، والاتجاه نحو صفقة تبادل أسرى.
ومن مغرد خارج السرب وخلف نتنياهو أنهم ذاهبون إلى نصر مؤكد، بينما فريق من الحاخامات يؤكد أن إسرائيل تخوض حرب وجود!
لم يكن مقاتلو غزة وحدهم في المعركة، فقد ظهرت آيات أكدت أنهم منصورون مؤيَّدون ببركات السماء، وأن دعاء الأكف الضارعة أتي ثماره؛ فكم شاهدنا من مشاهد مبهرة في هذه الحرب: مشاهد المسافة صفر، ومشاهد قتل الإسرائيليين بعضهم لبعض، والكلاب التي لا تشم المفرقعات، وكلاب شوارع فلسطين التي واجهت كلاب إسرائيل المدربة وأجبرتها على التراجع، والدبابير التي أسقطت كتيبة، والميناء الأمريكي الذي فككته الأمواج، ثم ثبت أنه ميناء حرب لا سلام!
عودة العيد.. عودة البشرى
العيد رحمة وفرصة ربانية علينا أن نغتنمها ونستقبلها باستبشار وتفاؤل.
تلك النفحات التي تأتي من العام للعام تدعونا لنتعرض لها. الأضاحي تتجمع وتتكدس وخلفها صفوف من الفقراء والمحرومين في انتظار فرج قريب. وأموال الزكاة والأضحيات تتدفق من أيدي المسلمين الموسرين طمعاً في رحمة رب العالمين صاحب الملك والملكوت، زكاةً عن عافية يُرجَي بقاؤها، وعن مال يُرجي نماؤه، وعن ذرية ترجي لهم سعادة الدارين.
تلك النفحات والرحمات التي تنزل فتغشى الجميع، فقراء وأغنياء، مبتلون وأصحاء، مقاتلون في ثكناتهم أو آمنون نائمون في بيوتهم وعلى فرُشهم.
عامٌ هجريٌ يشيخ ويهرم موصياً ابنه، العام الهجري الجديد، أن يكون رحيماً بالضعفاء. وهو يختتم أيامه بنفحات من الرحمة الربانية الداعية للتفاؤل رغم كل شيء. فلا حزن يبقى، ولا ألم يدوم، وكل شيء في هذا الكون يدور، شأنه شأن الأرض وأفلاك السماء، ولا أحد يبقى على حال. فلننتهز الفرصة ونتعرض لنفحات الرحمة وبركات الوقت.
الآن يحدث
منذ أعوام مضت تحدثت عن أشياء رأيت فيمن رأوا أنها ستحدث، وأن الدلائل والمؤشرات تقول إنها قادمة وأن علينا أن نستعد..
قلت إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا قادم، وإن في هذا الأمر نذير بأن المهاجرين واللاجئين سوف يعانون تضييقًا قد يصل إلى حد الطرد، كما تدعو "ماري لوبان" زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا لطرد الغرباء! وقد نفاجأ بها على رأس السلطة خلفاً لماكرون.
ليست فرنسا وحدها التي انعكست فيها البوصلة السياسية، فقد حدث هذا في بريطانيا وهولندا وبولندا وألمانيا وإيطاليا، والأخيرة ظهر فيها مشهد أرعب المراقبين، عندما اجتمع آلاف الشباب في أحد الساحات رافعين أيديهم بالتحية الفاشية! فهل تعود الفاشية لإيطاليا، والنازية لألمانيا، والترامبية لأمريكا، لنصبح على مرمى حجر من تكرار المشهد التاريخي الممهد لحرب عالمية؟!
منذ أعوام مضت قلت إن المؤسسات الدولية عرضة لانهيار وشيك بسبب ممارسات أمريكا الأحادية، والتي جعلت قرارات الأمم المتحدة حبرًا على ورق، قلت هذا منذ حدث التخبط في تقارير منظمة الصحة العالمية أمام جائحة مشكوك في حقيقتها، ثم رأينا مؤسسة كالعدل الدولية والجنائية الدولية تتعرضان لضغوط تجعل منهما أضحوكة عالمية، فلا قرار إلا القرار الأمريكي، ولا صوت يعلو فوق صوت الفيتو. فماذا لو حدث صدام بين القوى الكبرى في العالم، هل نتوقع أن يبقى لتلك المؤسسات الدولية أي دور؟ أم سيختفي دورها ومن ثم تختفي مسمياتها؟!
ومنذ أن بدأ طوفان الأقصى قلت إن هذا نذير بانهيار الداخل الإسرائيلي، وأننا لن نلبث أن نجد تفككًا في مجلس الحرب يؤدي في النهاية لرحيل نتنياهو. قلت إن المشهد يتغير باستمرار.
ومن بين التغييرات القادمة المنتظرة، انهيار الدولار عالميًا. قد يحدث هذا فجأة أو على دفعات، لكنه سيحدث. وعلينا أن نستعد لتبعات مثل هذا الأمر. هناك دول تلهث بحثًا عن الذهب، ودول ذاهلة تفقده وتنفقه غير عابئة بمثل هذا المنعطف الاقتصادي المخيف.
روسيا الآن تحشد قواتها على تخوم بولندا، والناتو يحذر من حرب نووية وشيكة دفاعًا عن أوروبا الموحدة، بينما صعود اليمين المتطرف ينذر بتفكك اتحادها القديم! التغيير العالمي مستمر وهو الآن يحدث..
سنة الله في الكون
إنها سنة إلهية ماضية لا تعبأ برافضيها أو مقاوميها..
إن كل قوة أو حضارة تعلو لابد لها يومًا ما أن تشيخ وتذبل. وأن الأيام دول. فلا أمريكا باقية، ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا إسرائيل. كلها قوى تأفل وهي الآن تدلف إلى منعطف التغيير. ولن تلبث الأرض أن تدور دورتها تصعد على إثرها دول وتنهار غيرها.
إننا نشهد بأعيننا كيف تتساقط إسرائيل حجرًا بعد حجر. ولن نلبث أن نشاهد انهيارها الكامل بعد سنوات أقل من أصابع اليد الواحدة. أقول هذا مندهشًا متعجبًا من المهرولين نحو التطبيع مع دولة مآلها الانهيار والزوال! فهل عميت القلوب والبصائر لهذا الحد؟!
على كل حال جاء العيد، وعلينا أن نرتدي الجديد. نرتدي عقلًا وفكرًا مختلفًا يلائم ما يحدث حولنا من تغيير، نرتدي جلدًا رقيقًا يشعر بمعاناة الفقراء والثكالى والمشردين والضعفاء، بدل الجلود السميكة والقلوب المتحجرة القاسية، نرتدي معاطف الرحمة وثياب العطاء وملابس الكرم والجود.
ها هو العيد الكبير قادم. أتفاءل وأستبشر بأن الفرحة الكبيرة قادمة ووشيكة. وأدعو الرحمن أن تعم الفرحة أرجاء البسيطة. وأن تسفر سنة التدافع عن مشهد أفضل من سابقه. وأن يخرج من باطن المشهد العالمي القاتم نور يضيء ما بين المشرقين.
أحمل بين ضلوعي قلبًا متفائلًا لا يخيفه تكاثف الظلام ولا يقلقه تكاثر الخطوب، طالما للكون ربٌّ مهيمن يدبر الأمر ويرحم العباد ويبدل الأحوال بقولة: "كن".
[email protected]