مسلة كليوباترا: هناك مسلات في روما وباريس فلماذا لا تحصل نيويورك على واحدة..

13-6-2024 | 16:39

عندما وصل القنصل العام الأمريكي الجديد ألبرت فارمان إلى ميناء الإسكندرية جذبت انتباهه مسلة كليوباترا التي يطالعها القادمون، وحرص على زيارتها والفرجة على عمود الصواري، قبل أن يتجه بالقطار إلى القاهرة لتقديم أوراق اعتماده إلى الخديوإسماعيل. كان ذلك في بدايات صيف عام 1876، أي في آخر أعوام الخديوي في الحكم، حيث عزله السلطان العثماني في صيف عام 1879.  

وبعد سنواته الخمس في القاهرة عاد فارمان إلى بلده ليكتب مذكراته تحت عنوان مدهش "مصر وكيف غُدر بها" والتي سجل فيها إعجابه البالغ بمصر وتاريخها وبالقاهرة وحاضرها "مدينة ساحرة فاتنة، من أجمل مدن العالم، وقلما تجد مدينة تضاهيها في بهجتها، وقلما تجد مملكة حديثة العهد في مظاهرها وروعتها كمصر، بل قلما يجد الباحث وراء اللذة أو الباحث وراء العلم ما يضاهيها".. (الناشر: المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر سنة 1964 ترجمة: عبد الفتاح عنايت ومراجعة: علي جمال الدين عزت عثمان).

ولا يمكن الإفلات من تلك العبارة التي سجلها: "يشتاق الإنسان الذي شرب من ماء النيل مرة أن يمرح ثانية في طقس مصر الجميل، ويعود إلى مسراتها وملذاتها التي تظهر له حينما يسرح الطرف فيها وكأنها حلم لذيذ عن أرض عجيبة تضيئها أشعة مصباح علاء الدين السحرية".

تناول فارمان بالتفصيل كل ما يتعلق بخطوات اعتماده قنصلًا عامًا كما خصص فصولًا مطولة وغارقة في التفاصيل لأسرار النيل وفيضانه وسبل الري، ومشاهد الحجاج المسافرين إلى مكة المكرمة والكسوة والمحمل، ثم احتفالات العودة من الحج، وأحوال الدراويش، التي تتخللها خرافات ليست من الدين في شيء، مثل طقس الدوسة الذي منعه الخديوتوفيق فيما بعد. ذهب فارمان مع اصدقائه في رحلات كثيرة إلى سيناء، عيون موسى، جبل الطور، ودير سانت كاترين، وبحيرة المنزلة، ودعم الكتابة عنها بقراءات متعمقة لمؤرخين كبار.
 
ثم حكى قصة مسلة كليوباترا، وأقر بنفسه، بأنه قد نُشر خطأ في إحدى صحف نيويورك أن سمو خديوى مصر أبدى رغبته في إهداء مدينة نيويورك المسلة الباقية بالإسكندرية، عند التقدم بطلب مناسب للحصول عليها، وأنه قد أسر بذلك إلى جون ديكسون المقاول الذي نقل مسلة إلى لندن.  

ويعترف فارمان بأن ديكسون هذا أرسل له خطابًا يقول فيه إن النبأ خطأ من أساسه و"الواقع أنه لم يحدث شيء من هذا القبيل"، لكن الخبر تدرج في النمو السريع والتقطه، ربما استجابة لتخطيط مسبق، مدير مصلحة المتنزهات العامة لمدينة نيويورك، وأعلن عن اكتتاب لجمع الأموال اللازمة لنقل وإقامة المسلة المذكورة، كما أرسل إلى وزير الخارجية الأمريكي يستحثه لمخاطبة الخديوي رسميًا وتوجيه الشكر له، وإبلاغه بأن كل فرد من أفراد نيويورك، بل كل شعب الولايات المتحدة يتمنون النظر بعين العطف لهذا الطلب وأن هذه المسلة لتبقى شاهدًا ينطق بلسان روحكم (الخديوي) الحرة المستنيرة.
 
هكذا تمت الخطة المحكمة، مع واجبي في الإشارة إلى ما ذكره القنصل فارمان من أنه حاول التبرؤ من أي تدبير سري أو تحفيز كاذب، وكتب لوزير خارجيته بأن هناك خطأ وأن الخديوي لم يلمح إلى شيء من هذا. 

ولكن فارمان اعتبر أن الموضوع فُتح ولا يصح أن يغلق هكذا، وأنه إذا لم يكن الخديوي سيوافق على مسلة كليوباترا لمعارضة أهل الإسكندرية، فلتكن مسلة أخرى، وبدأ بنفسه البحث في المسلات المتوافرة في البلاد. 

ويعترف القنصل بأن الخديوي اندهش عند طلب المسلة، لم يكن يعرف، لكنه لم يحرج القنصل ووعده بالتفكير. وقال له في عشاء جمعه ومسيو ديليسبس: إن مستر فارمان يرغب في الحصول على مسلة" و"إني لا أرى مانعًا من إعطائهم واحدة، وأن ذلك لا يضرنا في شيء ولسوف يكون عظيم القيمة لديهم" و"لكن ليس مسلة إسكندرية". وتشبث القنصل لأن هناك مسلات في روما وباريس، فليأخذ مسلة الأقصر. وفي مناسبة أخري قال له القنصل العام الإنجليزي إن مسلة الأقصر تخصه وسيأخذها إلى بلاده!
 
وكانت الاعتراضات على نقل مسلة إلى نيويورك تأتي من الأجانب الذين يمرحون حول الخديوى ويتحكمون خصوصًا في شأن الآثار، وبدا فارمان حاقدًا على ميريت باشا وفضحه في المذكرات: "حمل إلى باريس أجمل مجموعة من الآثار التي نقلت من مصر وحصل عليها عن طريق الضغط الدبلوماسي الشديد والمتواصل وبالاحتفاظ بسرية الآثار، وما زالت المجموعة التي يبلغ عددها حوالي سبعة آلاف قطعة موجودة في متحف اللوفر".

كان الوقت صعبًا في مصر وجرت اضطرابات صاحبت الضغوط الأوروبية من قبل حملة سندات الدين المستحقة وفوائدها الفاحشة، والذين تمكنوا من حكم الوزارات ومراقبتها تاركين لإسماعيل السلطة الأسمية، ما أدى إلى عزله وتولية ابنه توفيق باشا. ولكن الطمع في المسلات وغيرها استمر من جانب الزوار الرسميين لبلادهم في بلاط الخديوي. في النهاية تم نقل مسلة كليوباترا من الإسكندرية إلى نيويورك بموافقة الخديوي، ولأن عملية إنزال المسلة وشحنها استغرقت ثمانية شهور، فقد غادرت ميناء الإسكندرية في عهد الخديوي الجديد في 12 يونيو 1880. 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة