في يوم الثلاثين من شهر مايو 2024، احتفلت مصر والصين بمرور 68 عامًا على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وهي سنوات تبدو قليلة من حيث العدد، غير أنها زاخرة بإنجازات عظيمة، تحققت على أرض الواقع، ونعم بها شعبا البلدين الشقيقين، وتوجت بمظاهر هائلة من الازدهار والاستقرار، لتصبح –بحق- النموذج الأمثل لتعاون إستراتيجي شامل، بين أعرق وأقدم حضارتين في التاريخ الإنساني.
استنادًا لسجلات صينية قديمة، ورد اسما مصر والإسكندرية، مشيرة إلى أن ربط طريق الحرير العربي، وطريق الحرير البحري بين مصر والصين، لم يكن تجاريًا واقتصاديًا فحسب، وإنما ربط بينهما ثقافيًا وفكريًا وعلميًا، لأكثر من 3 آلاف سنة.
الحضارتان المصرية والصينية القديمتان تتميزان بالخصائص الفريدة والإعجاب والتعلم المتبادل، وتستوعبان الجوهر من ثقافة الجانب الآخر، باحترام وتواضع، الأمر الذي يشكل نموذجًا حيًا للتبادل، والاستفادة المتبادلة بين حضارات العالم.
فلاسفة اليونان القدماء، طاليس وأفلاطون، والمؤرخ هيرودوت، جميعهم درسوا في مصر القديمة، ويجري تلقين التلاميذ بالمدارس المصرية أن الأهرامات -التي عمرها 5 آلاف عام- وكذلك سور الصين العظيم- أطول سور على خريطة الكرة الأرضية بني منذ آلاف السنين- هما إنجازان حضاريان قديمان للبلدين، تدلان على المهارة العلمية والتكنولوجية الفائقة للمصريين والصينيين منذ القدم، بل ينسب إلى رواد الفضاء -في العصر الحديث- أن أوضح ما شاهدوه بالعين المجردة من مركباتهم الفضائية سور الصين العظيم، وأهم ما يميزها من معالم هي الأهرامات.
أيضا، يجري تلقين التلاميذ بالمدارس المصرية عبارة "اطلبوا العلم ولو في الصين"، وهي العبارة المحفورة بالأذهان، وتعني طلب العلم في كل زمان ومكان، حتى السور وبحر الصين، وهما كانا أقصى مكانين معروفين للمصريين منذ القدم.
في التاريخ المعاصر، وتحديدا، في الفترة من 18 إلى 24 أبريل عام 1955، وقبل سنتين من إعلان إقامة العلاقات الدبلوماسية، التقى الزعيم المصري الراحل جمال عبدالناصر مع رئيس مجلس الدولة الصيني الأسبق شو ان لاي، في أول محطة للتواصل بين القيادات السياسية بالبلدين، على هامش مشاركتهما بالمؤتمر الأفرو-آسيوي، بمدينة باندونج في إندونيسيا، ليجري تدشين صفحة جديدة ومضيئة.
فتح اعتراف مصر بجمهورية الصين الشعبية، وإعلان إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في عام 1956، كل الأبواب في عواصم الأشقاء بالدول العربية والإفريقية لاتخاذ مواقف إيجابية مماثلة تجاه بكين، وتكرر الموقف المصري، ذاته، عندما أيدت مصر -بقوة- حق الصين في تبوء مقعد دائم بمجلس الأمن في عام 1972.
في كل المحافل والمنتديات الدولية، تؤيد مصر وحدة وأمن وسلامة الصين، وسيادتها على كامل التراب الصيني، بما فيها جزيرة تايوان، التي ستعود حتما لأحضان الوطن الأم، كما عادت منطقتا هونج كونج وماكاو، وقد شاءت الظروف أن أكون -أنا شخصيا- شاهدا على ما سمي بـ حدث القرن في الاحتفالات بعودتهما.
في المقابل، تظهر جمهورية الصين الشعبية درجة عالية من التأييد والمساندة لمصر على كل الأصعدة والمستويات، الثنائية والإقليمية والدولية، ويذكر المصريون –بكل اعتزاز وتبجيل- أنه عندما أعلن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر تأميم قناة السويس في شهر يوليو عام 1956، بادرت الصين بتأييد هذا القرار، وأكد الزعيم الصيني الراحل، ماو تسي تونج، أن الصين حكومة وشعبًا ستدعم -بكل ما في وسعها- النضال الباسل الذي يخوضه الشعب المصري، من أجل حماية سيادته على قناة السويس.
عقب العدوان الثلاثي الغاشم من جانب بريطانيا وفرنسا وإسرائيل على مصر في عام 1956، أصدرت الحكومة الصينية بيانًا أدانت فيه العدوان، وأكدت موقفها الثابت، الداعم للنضال العادل الذي يخوضه الشعب المصري من أجل حماية سيادة الدولة والاستقلال الوطني، وتجلى موقف الشعب الصيني المؤيد والداعم لمصر، عندما خرجت واحدة من أكبر المظاهرات بالصين، تأييدًا لمصر وتنديدًا بالعدوان.
خلال مرحلة التحول السياسي، التي شهدتها مصر عقب قيام ثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، أكدت الصين قولا وفعلا احترامها لإرادة الشعب المصري، ورفضها لأي تدخل خارجي في الشئون الداخلية، وتواصلت الاستثمارات الصينية في مصر لتزيد على 7 مليارات دولار أمريكي، وجرى افتتاح العديد من المشروعات التنموية المصرية-الصينية المشتركة، وفق الجداول الزمنية المقررة.
3 أسس وركائز وقواسم مشتركة تستند إليها مسيرة التبادلات بين القاهرة وبكين:
* أولا: استنادًا إلى مصطلحات عالم الجغرافيا البريطاني، هالفورد ماكيندر، أحد مؤسسي علم الجغرافيا السياسية، فإن البلدين، مصر والصين، مثلا عبر الزمن محورًا "جيوسياسيًا" في عالمهما. ولكونهما بلدين ذوي حضارتين مجيدتين، فقد مثلتا ركيزة لمنطقتيهما، من خلال احتضانهما لأكبر عدد من السكان، وامتلاك كل منهما لقوة سياسية ومؤسسات ثقافية ومنظمات اجتماعية وجيش قوي.
* ثانيًا: تشاطر البلدان واقعًا تاريخيًا مشتركًا، حيث كان يعين عليهما النضال لنيل استقلالهما وبناء دولتيهما خلال القرن العشرين، ومع مطلع القرن الواحد والعشرين اللذين اتسما بالتقلبات والاضطرابات الشديدة.
* ثالثًا: تحرص البلدان –تمامًا- على رسم سياساتهما الخارجية وفقًا لمبادئ القانون الدولي واحترام الأخرين.
لذا تتشابه رؤى الدولتين للغاية، إن لم تكن متطابقة حيال القضايا ذات الأهمية الخاصة بالنسبة لكليهما، وتحديدًا، فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط، وفي القلب منها، قضية العرب المركزية في فلسطين.
خلال زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي للصين في شهر ديسمبر من عام 2014، رفع البلدان العلاقات الثنائية إلى مستوى الشراكة الإستراتيجية الشاملة، مما فتح مجالا أوسع للتعاون في جميع المجالات، وفي شهر يناير عام 2016، قام الرئيس الصيني شي جين بينج بزيارة الدولة إلى مصر، الأمر الذي ساهم في تعميق الصداقة التاريخية وإطلاق عصر جديد من التعاون الإستراتيجي الشامل.
شهدت العلاقات الثنائية بين مصر والصين طفرة في مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والثقافية، خلال السنوات العشرة الماضية، حيث عقد الزعيمان، السيسي وشي، 10 اجتماعات ثنائية، كما زار السيسي الصين 9 مرات، لحضور قمم وفعاليات دولية، أهمها: قمة مجموعة العشرين في هانغتشو 2016، والقمة الثانية لمنتدى التعاون الدولي "الحزام والطريق" ببكين 2019.
في عام 2022، التقى الرئيس الصيني، شي جين بينج والرئيس عبدالفتاح السيسي مرتين، إحداهما خلال مشاركة السيسي في حفل افتتاح أولمبياد بكين الشتوية، وفي أواخر شهر مايو الماضي، حققت علاقة المشاركة الإستراتيجية بين البلدين نقلة نوعية وفقًا لما نص عليه البيان المشترك في ختام القمة التاريخية بين الزعيمين –السيسي وشي – في العاصمة الصينية، حيث جرى مناقشة الصداقة التقليدية وسبل تعزيز التنمية والتعاون بين البلدين، وتوصلا إلى توافقات مهمة، الأمر الذي حدد الاتجاه، ويضخ القوة الدافعة القوية للعلاقات الصينية-المصرية في المرحلة الجديدة..
على مدار السنوات العشر الماضية، حقق التعاون بين البلدين تطورًا شاملًا ومعمقًا في مجالات المواصلات والاتصالات والتعدين وصناعة الغزل والنسيج وتكنولوجيا المعلومات والذكاء الاصطناعي وعلوم الفضاء والمدينة الذكية والطاقة الجديدة والطاقة المتجددة والتدريب والتعليم المهني والتعليم العالي، وتركت الصين بصمتها في عملية التحضر والتصنيع في مصر.
الصين هي واحدة من أكثر الدول نشاطًا والأسرع نموًا من حيث الاستثمار في مصر، كما أنها أكبر شريك تجاري، حيث بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 20 مليار دولار في عام 2021، منها صادرات مصرية بلغت حوالي 1.7 مليار، محققة قفزة بنسبة 84.8% على أساس سنوي.
في الوقت نفسه، ينشط التبادل والتعاون بين البلدين في مجالات الثقافة والتعليم والإعلام والعلوم والتكنولوجيا. وفي السنوات الأخيرة، أقام الجانبان أنشطة متنوعة مثل الأسابيع الثقافية ومهرجانات الأفلام ومعارض الآثار ومعارض الصور، التي لاقت ترحيبًا كبيرًا من شعبي البلدين.
بعد توقيع مصر والصين مذكرة تفاهم بشأن البرنامج التنفيذي لسفر المجموعات السياحية الصينية إلى مصر في عام 2002، ازداد عدد السياح الصينيين إلى مصر بشكل سريع.
في عام 2018 وصل عدد السياح الصينيين إلى مصر 500 ألف شخص، وفي شهر يناير عام 2023، أُدرجت مصر في قائمة الدفعة الأولى من الدول التجريبية لاستئناف المجموعة السياحية الصينية الصادرة من وزارة الثقافة والسياحة الصينية.
هناك 17 علاقة توأمة بين مقاطعات ومدن مصر والصين، كما دخلت اللغة الصينية المنهج الدراسي للمدارس الابتدائية والمتوسطة المصرية، وفي شهر سبتمبر عام 2022، جرى إطلاق المشروع التجريبي لتعليم اللغة الصينية بالمدارس المتوسطة المصرية، وهناك ما يقرب من 30 جامعة مصرية تفتح تخصص اللغة الصينية، وتم إنشاء 4 معاهد كونفوشيوس وفصلي كونفوشيوس وورشتي لوبان.
* الأن ينظر المصريون العاديون إلى المستقبل، والآفاق الرحبة التي يمكن أن يجنيها الطرفان، المصري والصيني، من تفعيل الشراكة الإستراتيجية الشاملة، في مواجهة تهديدات وجودية ومصيرية، مثل تداعيات إنشاء السد الأثيوبي وقضية جزيرة تايوان، التي تنتقص من وحدة الصين، وسيادتها على كامل ترابها الوطني.
* ينتظر المصريون تدفق المزيد من الاستثمارات الصينية، وإذا كانت قد قفزت إلى نحو 7 مليارات دولار في عام 2020، فلابد من مضاعفتها، تزامنًا مع ما سوف يجنيه الطرفان من مبادرة الحزام والطريق.
* ينتظر المصريون تدفق المزيد من السائحين الصينيين، ويظل رقم نصف المليون سائح صيني زائر غير متناسب مع موقع مصر على خريطة السياحة العالمية، ومع حجم السياحة الخارجية الصينية.
* أخيرًا، ينتظر المصريون إصلاح الخلل المزمن في الميزان التجاري لصالح الصين.
[email protected]