أصبحت تقول من ثلاثين أو أربعين سنة حدث كذا وكذا!
لا أدرى هل أواسيك في عمرك الذى انقضى؟ ثم نجلس سويًا نبكى العمر الذى مر "وكأنه إمبارح" .
أم أهنئك على رحلتك وأطمئنك أن العمر لم يمر هباءً.
نعم يا عزيزى، طالما لديك ذكريات يمكن أن ترويها وتعيش فى دفئ الحنين إليها، وطالما تكفيك تفاصيل تلك الأيام وتمدك بالطاقة اللازمة لتحيا ما تبقى من عمرك بالشكل الذى ترضاه، فاعلم أن أيامك لم تمر هباءً.
زمان، فى سالف العصر والأوان، عندما كنا صغارًا لم نزل، عندما كان يتوفى شخص ونعرف أنه بلغ الخمسين أو يزيد قليلًا، كنا نداري ضحكاتنا ونتغامز ونتلامز سرًا، وتقول أعيننا "لا حول ولا قوة إلا بالله، مات صغيرًا، خُطِفَ الرجل فى عز شبابه"، كانت الأربعون والخمسون بعيدة كل البعد عن مخيلتنا، كنا نظنها لن تقترب من مجلسنا أبدًا، لن تجرؤ على ذلك، ومهما سمعنا عنها ورأينا حولنا ما يؤكد وجودها، كانت النفس لا تبالى ولا تتوقف عندها ولا ثانية واحدة، كان اليقين دائمًا أن الزمن سوف يتوقف عندما نصل إلى سن الثلاثين وبعدها نظل شبابًا إلى الأبد!
عمر العشرين لذيذ وممتع؛ لذيذ لأنه بلا عقل، بلا وعى، قانونه الأزلى هو الاندفاع نحو ما يريد بكل ما أوتى من قوة؛ لذلك تجده دومًا يعمي الأبصار عن كل شيء، خاصة منغصات الحياة، إن أحببت فلن ترى صعوبات، ما المشكلة؟ المال؟ سوف أتخرج وأعمل وبعد عامين أوفر المال وأتزوج، هل ترون، لا مشكلة؟ إن فكرت فى السفر لن يجرؤ عقلك على مناقشتك، الأمر لا يتطلب سوى تذكرة السفر والتأشيرة، ثم ينهال عليك المال لتحقق كل أحلامك.
ويظل الأمر كذلك إلى أن تصل إلى منتصف الثلاثينات، لتبدأ مرحلة الإفاقة، أسميه غرفة إنعاش الحياة، ففى عز غيبوبتك واندماجك وانطلاقك بلا وعي مع مرحلة العشرينيات، تجد من يأتيك فجأة يمسك بكتفك ويلطمك على وجهك منبهًا إياك أن تأثير "البنج" قارب على الانتهاء، عليك الآن أن تفيق وتتعامل مع الأمر بسرعة وإلا فلا تلومن إلا نفسك إن مر بك قطار العمر وأنت لا تزال تحت تأثير البنج.
صدقنى أنك لن ترى أو يدور فى خاطرك أن هناك ما يعرف بمرحلة الأربعين أو الخمسين، فهى بعيدة عنك بعد الشمس والقمر عن الأرض، لا أقول لك إنك سوف تدرك وجودها وتفكر فيها بهدوء وعقل وتستعد لها، بل أقول لك إنها لن تخطر على بالك أصلًا، وربما كان هذا أجمل ما في الموضوع، هي نعمة كبيرة يا ليتها دامت.
لذلك أنصحك أن تدعها تأتي فجأة، وسوف تعرفها، شئت ذلك أم أبيت، أقصد مرحلة الأربعينيات وما بعدها.
لا تقلق فلن تتوه عنها، فلها علامات لا تخفى على أحد!
بمجرد أن تسير فى الشارع وتجد الفتيات تنادي عليك "لو سمحت يا عمو، كم الساعة الآن؟" فاعلم أن الطائرة قد أقلعت وأن الرحلة قد شارفت على الانتهاء، أما عندما يشد أحدهم يدك ويصرخ فى وجهك "حاسب يا عم الحاج، احترس من الحفرة التي أمامك" فاعلم أنك قد وصلت تمامًا إلى وجهتك، اربط الحزام واستعد للهبوط.
هل أنت خائف؟ لا.. لا تخف يا عزيزى، فلن تشعر بشيء صدقني، ما هي إلا لحظة سوف تأتيك فجأة، تلك هي عادتها وهذا هو أسلوبها المميز، ما عليك إلا أن تتقبلها عندما تأتي بنفس راضية، ولتكن سعيدًا عندئذ؛ لأن معنى ذلك أن الله قد مد في عمرك لتصل إلى تلك اللحظة، وخلال ذلك لا شك أنك قد مررت برحلة طويلة استمتعت فيها أحيانًا وربما عانيت أحيانًا أخرى، لكن بقيت لك منها ذكريات، وهو أمر رائع سوف يحسدك عليه الكثيرون.
لكن أخبرنى يا صديقى، وأصدقني بالله عليك، ماذا سوف تفعل إن وجدت أحدهم ينظر إليك وأنت في الخمسين من عمرك على أنك شيخ هرم لا يستحق أن يحزن لموته أحد؟