لسنوات طويلة كنت أحسب حب أهالى صعيد مصر لصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي نابعًا من انتمائهم لبيئته؛ كونه من أبناء مدينة المنشاة التابعة لمحافظة الصعيد، وأن أبناء محافظات الجنوب لديهم دائمًا حالة وجدانية خاصة تربطهم بشخصيات ذاع صيتهم أمثال رفاعة الطهطاوي، وطه حسين والعقاد، وحتى الأحدث من شعراء وفنانين أمثال عبدالرحمن الأبنودي، وجورج سيدهم وسمير غانم وغيرهم كثيرون.
ولكن ما ألحظه تلك الأيام وأنا أتابع تراث شيخنا الجليل محمد صديق المنشاوي، في ذكرى رحيله فى 20 يونيو الجاري، حيث رحل فى هذا التاريخ من عام 1969، صغير السن؛ حيث لم يتجاوز ال 49 عامًا، أن شبابًا صغير السن يقبل على متابعته وتتبع تلاواته بالقراءات المختلفة فهو من المعدودين على أصابع اليد الواحدة ممن أجادوا القراءات السبع، وقيل إنه تجاوزهم إلى ما هو أكثر حيث القراءات عشر.
وبحكم تنقلي بأهم وسيلة مواصلات سهلة وتختصر المسافات وهي مترو الأنفاق أكون فى قمة السعادة وصوت محمد صديق المنشاوي ينبعث من تليفون محمول لشاب أو فتاة من طلبة الجامعة، وهنا أتنفس الصعداء محتفظًا لنفسي بحالة الإعجاب ببعض أبناء جيل متهم بعضه بأنه لا يقرأ، لا يسمع، فقط يتكلم.
ونتمنى أن نعيد النظر فيما يقدم على محطات الإذاعة وبخاصة القرآن الكريم، فقد أصبحت متهمة بأنها تفرغ عن عمد محتواها ليفسح المجال إلى فقرات إعلانية عن بيوت ذكاة وطعام وغيرها، مع أنه ليس دورها، بل دورها المهم جدًا أن تكون هي منبر لهؤلاء الشباب، قد يجدون فيها ما يرشدهم إلى الطريق الصحيح، صحيح أن هناك جزءًا لا زالت تحتفظ به وهو الترتيل الشهري، وأظن أن هذا الترتيل هو السبب فى إنشاءها فى مارس من عام 1964؛ عندما ظهرت في أوائل الستينيات من القرن الماضي طبعة مذهبة من المصحف، ذات ورق فاخر، وإخراج أنيق، بها تحريفات خبيثة ومقصودة لبعض آياته، وتم كشف التحريف، وهبت جهات عدة من خلال وزارة الأوقاف والشئون الاجتماعية، في ذلك الوقت – ممثلة في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والأزهر الشريف ممثلًا في هيئة كبار العلماء، وتم اجتهادًا أن تقدم تلاوات صوتية للمصحف المرتل برواية حفص عن عاصم بصوت القارئ الشيخ محمود خليل الحصري، واستقبلها الجمهور بحب واحتفاء شديدين، ثم ضمت تلاوات لكبار المشايخ أمثال محمد صديق المنشاوي وعبدالباسط ومحمود علي البنا، ومصطفى إسماعيل، وهم قراؤها حتى اليوم.
ولست هنا بصدد الاحتفاء بها، إذ يبدو أن الكلام عن أية تحفظات لا يؤخذ به، فقد سبق أن تحدث جمهور السوشيال ميديا عن رغبتهم فى منع الإعلانات منها أو خروجها عن الخط المرسوم لها، وأن تحتفظ بتراثنا والاحتفاء به دون مجاملات لأي قارئ أو شخصية فى منصب ديني.
ولكن أعود للشيخ محمد صديق المنشاوي فهو بحق أصبح صوت من يبحثون عن راحة نفسية لقدرته على بث الطمأنينة فى نفوس المستمعين، وأحبه الشباب بطريقة لم نكن نتوقعها، فمن لقب الصوت الخاشع والصوت الباكي إلى صوت جيل من الشباب المحبين لسماع الترتيل والتجويد بصوته، وهو وبعد ما يزيد على 55 عامًا على رحيله لا زال صوته الأقرب الى النفوس، يتحاكى به جمهور عربي، ويقلده كثيرون ممن يلتحقون بمسابقات التجويد في دول عربية وآسيوية.