8-6-2024 | 15:44

لعل من أجمل ما افتقدناه بسبب كثرة الصراعات وقلة الفعاليات الاجتماعية والثقافية دولياً ما كان يحدث منذ سنوات مضت من تبادل ثقافي فني قوامه الفنون الشعبية للدول. 

وفي ظل مثل هذا النوع من التبادل الثقافي؛ حدث تواصل على مستوى سفارات مصر ودول أخرى، وكنا كصحفيين حاضرين فى مثل تلك الفعاليات الممتعة.

أذكر منها أيامًا جميلة قضيناها فى أرض الجمال وبلاد السحر والتاريخ الواقعة فى الخط الفاصل بين أوروبا وآسيا، محاطة بكوكبة من بلدان عريقة عتيقة؛ أعلاها روسيا وأدناها إيران وإلى الغرب منها تركيا وأرمينيا؛ إنها أذربيجان تلك الدولة المتفردة في طبيعتها وحاضرها وتاريخها وسكانها ذوي الأغلبية المسلمة، وكانت محطة الوصول هي عاصمة البلاد (باكو).

فما هي باكو؟ وما روعة أذربيجان وما سر سحرها؟

على طريق حيدر علييف

الأسماء والأماكن هناك تجعلك دائمًا في منطقة فاصلة بينَ بين؛ فأنت بين التاريخ والمعاصرة، وبين الإسلام والعلمانية، وبين أوروبا وآسيا، وبين شعورك بالغربة والألفة معاً فى آن. 

الرحلة كانت بصحبة فرقة مرسى مطروح للفنون الشعبية، وكان في استقبالنا هناك صاحب الدعوة رئيس قطاع العلاقات الثقافية والخارجية المصرية؛ إنه نوع من السياحة الثقافية التبادلية. 

وباكو مدينة سياحية من أرفع طراز، جمعت بين الآثار التاريخية والأبراج والمولات الحديثة وبين الطبيعة الساحرة نادرة النظير.

المطار الذي هبطت فيه طائرتنا هو مطار (حيدر علييف)، وهو مشابه لمطاري الأقصر وأسوان قبل تطويرهما، والشارع الطويل الممتد من المطار يحمل نفس الاسم. فمن هو (حيدر علييف) الذي تسمى مطار العاصمة باسمه؟! إنه الرجل الذي حكم أذربيجان في أهم فترة من فترات استقلالها، وهو شخصية عجيبة جمعت المتناقضات؛ إذ هو مسلم شيوعي كان جنرالًا سابقًا فى جهاز الاستخبارات السوفيتية "كي جي بي" وتمتع بثقة السوفييت والأذريين كليهما؛ ولهذا حكم أذربيجان مدة ثلاثة عقود كاملة منذ عام 1993 حتى توفي عام 2003 عن عمر ناهز الثمانين عامًا. 

لقد أعلنت أذربيجان استقلالها عن الاتحاد السوفيتي عام 1991، وكانت السنوات الأولى للاستقلال سنوات مضطربة اشتعل فيها النزاع بين أرمينيا وأذربيجان على منطقة (قره باغ) الحدودية، وفقدت أذربيجان السيطرة على نحو 16% من أراضيها، وقُتل بها ما يقدر بنحو 30 ألف شخص، وتم تشريد نحو مليون أذري من أراضيهم، أي ما يصل لنحو ثمن سكان أذربيجان كلها!
 
كان حيدر علييف زعيمًا من الزعماء السابقين للسوفييت فى أذربيجان، وبمجرد وصوله للسلطة استقرت الأوضاع عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، وتم كبح جماح الفوضى القائمة فى البلاد، فنعمت بالرخاء فترة طويلة، لذا تمتع حيدر علييف باحترام الأذريين فأطلقوا عليه اسم "الأب"، باعتباره الأب الأول لأذربيجان الحديثة.

فنجان شاي بجوار بحر قزوين

حينما لاحظ السفير المصري (صابر منصور) اندهاشنا ورؤوسنا التي ما فتئت تدور يمينًا ويسارًا وعيوننا مأخوذة بمشاهد لا ترى مثلها إلا في أفلام الناشيونال جيوجرافيك عالية الجودة. قال السفير: خذ نفسًا عميقًا واملأ به صدرك وأنت تسير فى شوارع باكو، إنه ينصحنا أن نعبئ صدورنا بما نفتقده فى مصر من هواء نقي بكر، وأن نملأ عيوننا التي طالما انشغلت إما بطريق مملوء بسيارات تسد طرق القاهرة، أو بغبار تلك الطرق المزدحمة المملوءة عن آخرها.

إنك إذن تسير فى شوارع باكو وكأنك تسير فى عالم من عوالم الحلم والخيال، وعليك ألا تغمض عينيك عن تلك المشاهد حتى يظل خيالك محتفظًا بها لدى عودتك إلى واقعك المزدحم!

الشاي الأسود بالنكهة الأذرية المميزة هو المشروب الرسمي، وهو أجمل ما تشربه هناك بالفعل، بل وتبحث عن مذاقه الفريد، خاصةً لو تناولته على ضفاف بحر قزوين منعدم النظير؛ إنه أكبر بحر مغلق فى العالم، وهو ليس حكرًا على أذربيجان بل تشاركها فيه أربعة دول أخرى هي إيران وروسيا وتركمانستان وكازاخستان، بطول يزيد على ألف كيلومتر وعرض يتسع لنحو ثلاثمائة كيلومتر، وتصب فيه آلاف الأنهار المنحدرة من الجبال المحيطة به إحاطة السوار بالمعصم، أغلبها أنهار صغيرة قصيرة ضيقة، وأهمها أنهار الفولجا وتيريك القادمين من روسيا، ونهر كورا القادم من أذربيجان، وإن لم يكن هو النهر الوحيد بها؛ إذ تحظى أذربيجان بعدد من الأنهار يزيد على ثمانية آلاف نهر! منها 24 نهرًا هي الأطول بين تلك الأنهار الكثيرة. 

والبحر يحتضن في قلبه عدة جزر ليس منها إلا جزر نادرة مأهولة، أهمها جزيرة بولا قرب الساحل الأذري؛ وهي تحتوي على احتياطي كبير من النفط.

وبسبب ثراء بحر قزوين بالبترول والغاز الطبيعي تم تقسيم ثرواته على الدول الخمسة المطلة عليه بمعاهدة بحر قزوين التي وُقعت عام 2018.

مدن أذربيجان تم تشييدها على السهول المنبسطة في سفوح سلاسل جبالها، وطرقها الممهدة جعلت الانتقال بين شوارعها سهل ميسور. 

وإذا كانت أذربيجان مجمعًا لحضارات الشرق والغرب ومنفذًا لطريق الحرير ومقرًا لتاريخ عريق يبدو واضحًا في معالمها؛ إلا أن هذه الدولة المثقلة بهموم الماضي الاستعماري تخطو الآن بثبات نحو الحداثة ومظاهر النهضة الحديثة المتمثلة في الجامعات والمعاهد وناطحات السحاب والمراكز التجارية والترفيهية.

أذربيجان من قمة برج العذراء

لم يكن لدينا وقت نضيعه فى أسبوع يتيم هو كل ما كنا نملكه لنجوب معالم أذربيجان السياحية وهي كثيرة، ولنستمتع بطبيعة العاصمة الساحرة وكل ركن فيها جميل ورائع. 

انحدر بنا سائق الباص الأذري (مراد) نحو شوارع وسط مدينة باكو، وحولنا أشجار الزيتون متراصة فى تناسق مبهر كأسنان المشط على امتداد الأفق، وامتزجت الأبنية القديمة ذات الطابع التراثي مع المباني الحديثة ذات التصميمات العصرية فى مزيج لا تمقته العين ولا تنكره. 

 كنا نتفاهم مع السائق بلغة الإشارة؛ لأنه لا يتحدث إلا اللغة الأذرية القريبة من التركية، وأهل باكو بصفة عامة يمتازون بالهدوء ولطف المعشر. 

وصلنا لوسط المدينة ذات المتاجر المندمجة مع المتاحف، والسوق الملتحمة مع المدينة القديمة ببواباتها الأثرية،  هناك حيث تجد في انتظارك قصر "شروان شاه" المطل على أبراج الشعلة، والذي يعود تاريخه للقرن الخامس عشر الميلادي، وكان يمثل آخر معاقل حكام ولاية شروان التي حكمت نحو ألف عام، وتجسدت فيه آثار الثقافة الزرادشتية والفارسية والروسية والعثمانية والعربية، وتم إدراجه عام 2000 كواحد من أهم المواقع التراثية بحسب اليونسكو.

أخذتنا أقدامنا ونصائح الناصحين إلى مبنى البرج (الميدين تاور) أو "قيزقلاه" باللغة الأذرية ومعناها "برج العذراء" وهو أحد أهم وأشهر معالم مدينة باكو، وقد بُني في القرن الثاني عشر على هضبة مرتفعة، وله تصميم مدهش فريد. الصعود لقمة البرج أمر مرهق لكنه يستحق العناء؛ السلالم دائرية ضيقة للغاية ذات سقف منخفض جداً، يضطر طوال القامة لطأطأة رؤوسهم طوال رحلة الصعود. 

مغامرة ممتعة أن ترتقي ممرات كممرات الفنارات محاذرًا وسط إضاءة متوسطة قادمة من المصابيح الصفراء والنوافذ الشبيهة بالثقوب والثغور بطول البرج. 

أخيرًا تصل لأعلى قمة البرج المنبسطة، إنه منظر يستحق عناء الصعود المرهق: منظر بحر قزوين يملأ بزرقته الأفق، ومن خلفه ساحة الحرية ودار الحكومة، والحدائق من حولك تبدو كلوحة تشكيلية بارعة.

تهبط من البرج لتجد فى استقبالك باعة ومتاجر أهمها محلات بيع السجاد الأذري اليدوي ذي السمعة التاريخية والرسوم التراثية المميزة. 

لكنك تترك كل هذا لتستريح أو لتأكل فى أحد المطاعم المحيطة بسفح البرج، وينتظرك فى هذا اليوم أو فى يوم آخر برنامج حافل في قلب المدينة المتخم بالمتاحف..

أغلى شوارع العالم

أحياء باكو تمتاز بتقاربها وتداخلها، ما يغريك بممارسة رياضة المشي طوال الوقت، غير أن الفضول سيدفعك حتمًا لتجربة مترو الأنفاق الذي يعتبر من أقدم المحطات فى العالم، وتهبط إليه من خلال خندق ينتمي فى تصميمه وبنائه للقرون الغابرة، ومحطاته بمثابة متاحف صغيرة تحفها مجسمات وتماثيل للشعراء والعلماء ونابهي أذربيجان الذين تحتفي بهم بلادهم أيما احتفاء.

وأمام متاحف أذربيجان الكثيرة قد تتشتت فتقرر ألا تزور إلا قليلاً منها، أو قد تغريك بزيارتها كلها، فتخرج من متحف الآداب لمتحف السجاد لمتحف الكتب. 

ثم ينتهي بك المطاف لدار الأوبرا أو إلى قصر مختاروف المسمى بقصر السعادة، أو ربما لحمام "حجي قايب" أحد أبرز الحمامات القديمة بمنطقة إشري شهر مقابل برج العذراء.

الآن تُعد بعض شوارع باكو من أغلى شوارع العالم، وقد احتلت المدينة المركز الثامن والأربعين في قائمة أغلى مدن العالم عام 2011، ويُعد شارع "نظامي" من أغلى شوارعها، وقد احتوت على مراكز تسوق ذات شهرة عالمية لعل أهمها مركز بارك بوليفار.

ولحسن حظي أنني زرتها فى وقت لم تكن قد وصلت بعد إلى مثل تلك المراكز المتقدمة فى غلاء الأسعار.

مائتي طريقة لطهي الأرز!

كان علينا أن نترك كل هذا السحر ونتجه إلى مدن وقري ومناطق غير العاصمة باكو.. ذهبنا لمقاطعة قويا ومدينة خاشماز، وأول ما صادفناه فيها المجمع الأوليمبي والذي ضم منتزه ومتحف حيدر علييف، اتجهنا لمدينة "شامخي" وهي من المدن التاريخية التي تعود نشأتها لما يقارب 3000 سنة وتبعد عن العاصمة بحوالي 135 كيلو مترًا واشتهرت بتجارة الحرير في العصور الوسطى والأماكن المقدسة، كما تمتاز بجمال طبيعتها الساحرة ويزيدها جمالا كرم ضيافة أهلها.

ثم ذهبنا لمدينة "اسماعيلي" التي تبعد 185 كيلو مترًا عن باكو، وهي كالعادة من أجمل مدن أذربيجان بجبالها وشلالاتها وغاباتها، وهي مدينة تناسب محبي المغامرات للقيام بجولات في غاباتها، لكن مع الحذر من الحيوانات البرية التي تقطنها.

وبالمدينة القديمة فرصة للتجوال في قريتي (لقيج وباسكال) المعروفتين بالأعمال الحرفية النحاسية والنقوش الخشبية.

في شمال غرب أذربيجان تقع مدن قبلا وشاكي وزاقاتالا التي تتميز بأشجار الفواكه والكستناء. 

واكتشفنا بعد تلك الرحلة الطويلة التى طافت بنا بين بعض أجمل مدن أذربيجان، أننا لم نزر إلا أقل من خمسة بالمائة من مدنها وشوارعها ومناطقها السياحية الرائعة؛ لندرك كم فاتنا من جمال وبهاء فى أذربيجان وغيرها من بلدان زرناها وكأننا لم نزرها، وكأنه حلم عابر مر بنا ثم تركنا في شوق دائم، أو كأنها رشفة من يم لا تشبع ولا تروي من ظمأ. 

عدنا لمدينة باكو، وتناولنا الكباب على الطريقة الأذرية ومعه أطباق أرز علمنا أنها تُطهى فى باكو بنحو مائتي طريقة مختلفة! 

هكذا تلاقت الثقافات على اختلافها واتفاقها حول موائد الفن والصحافة والإعلام والأدب، جلسنا نستمتع بما تبقى من برنامج الرحلة الحافل الذي انتهى قبل أن تنتهي متعتنا بالمكان وجمالياته، الذي أظنه اليوم بات أجمل وأروع مما تركناه.
 
[email protected]

كلمات البحث