في خضم هذا العالم الذي يعج بالمتناقضات والمتغيرات، عالم لا يثبت على وتيرة واحدة فتجد الشيء وضده أو نقيضه في مشهد واحد، لا أقول باختلاف الصور وإنما نفس الصورة هي هي لصاحبها، في دقائق أو أقل يتغير الحال؛ مما يجعلك كمتلق إما وإما، إما أن تفقد الثقة في نفسك أو تفقد ثقتك في كل من حولك فتؤثر الانزواء والانطواء.
لماذا؟!
لأنه اختلط الحابل بالنابل، الغث بالثمين، الجيد بالرديء.
تشعر أن العالم بكل ما فيه على ما فيه ذرات غبار على سطح زجاج لا يثبت حتى أمام هزيز ريح ولو نسمة صيف خفيفة.
ما هذه النزعة التشاؤمية اليائسة وكأن العالم من حولنا لا يوجد به شيء جميل، لا يوجد فيه شيء يستحق المدح والثناء.
لا لا يمكن بحال من الأحوال أن أقول ذلك أو أكون متشائمًا، ولكن هذا واقع نحياه حتى الشيء الجميل تجده مختبئًا تبحث عنه في ليلة ظلماء داخل كهف مظلم بشمعة ضوؤها خافت.
أو كمن يحاول أن يلتقط إبرة حياكة وقعت على ممشاة سوداء أو رمادية يحاول أن يتحسسها بيده فيشعر بها مغروسة في يده.
أليس هذا واقعنا المعاصر الذي نحياه في عصر السموات المفتوحة وثورة الإنترنت والذكاء الاصطناعي وسيطرة الآلة على الإنسان، وربما سيأتي يوم، وأظنه قريبًا، ستصبح هي القائدة لنا والمسيطرة والمحركة لنا، وهو ما أخبر عنه كارل ماركس من مئات السنين (فكرة الاغتراب)، وسيطرة الترسنة على الإنسان.
وخير دليل على ذلك ترسانة الأسلحة الفتاكة التي جربت بكافة أنواعها في غزة.
تعالوا معي نتعمق في الفكرة من خلال عدة أبعاد:
البعد الأول: البعد الأخلاقي
ألا تتفقون معي أو تختلفون ألم تتحول القيم الخلقية من الإطلاق إلى النسبية، وفقًا لقانون الصيرورة والتحول، نضرب مثالًا على ذلك أين فكرة الإيثار التي أخبرنا عنها الله تعالى، تحولت من الإيثار إلى الأثرة، مصلحتي قبل كل شيء (المصالح تتصالح)، هذه واحدة، وقس على ذلك التملق والمداهنة لأصحاب النفوذ والسلطة.
أيضًا المحسوبية والوساطة التي تنسحق تحت أقدام أصحابها كل المواهب، فلا مكان لأصحاب المواهب الحقيقية لماذا؟! لأنه ليس له وساطة، لأنه من الطبقة الكادحة غير المسموح لها بالمرور، ليس لديهم جواز مرور، وإذا ما مر في غفلة من الزمان وقت انشغال إياهم وتنبهوا له تشن عليه كل الحملات من أجل هدمه، أليس هذا ما يحدث؟!!!
أما الثانية، فما هذا الانحطاط الأخلاقي والتدني القيمي، أليس الاعتداء على المقدسات والمعتقدات صورة مزرية للتدني القيمي، ويكون ذلك على مرأى ومسمع من الجميع بدعوى الحرية الشخصية، هل حريتك يا من تمسك بالمصحف وتضرم به النيران، وتؤذي مشاعر مليار وسبعمائة مليون مسلم أو يزيد، هل هذه حرية والكل يتفرج.
الألفاظ الخارجة التي نسمعها في شوارعنا، والشذوذ الجنسي وأعلام المثلية، وارتكاب الفاحشة عيانًا بيانًا في وضح النهار، والترويج للعري والإيحاءات الجنسية، ومشاهد التحرش التي نشاهدها على شاشات التليفزيون والفضائيات، والترويج للبلطجة، ألم ينعكس ذلك على المتلقي المشاهد والنتيجة بلطجة ومخدرات ملأت شوارعنا.
البعد الثاني: البعد الاجتماعي
وهو على عدة مستويات، المستوى الأول، الأسرة علاقة الزوج بزوجه، وعلاقتهما بالأبناء، وهل سألنا أنفسنا كم مرة جلسنا مع أزواجنا وجددنا مشاعرنا التي ستنعكس على تربيتنا لأبنائنا، فما حال الأبناء عندما ينشأون في مكان مملوء بالأصوات المرتفعة والشجار على توزيع مهام الأب والأم وأنت عليك كذا وأنت عليك كذا في مصروفات البيت، وإذا ما حدث خلاف في التوزيع ترتفع الأصوات.
هل جالسنا أولادنا واستمعنا إلى مشكلاتهم دون نهرهم أو توبيخهم؟!
هل سألناهم عن حالهم وعلاقتهم بزملائهم، ومن قبلها علاقتهم بالله تعالى؟!
أما المستوى الثاني فهو المستوى المجتمعي المحلي، علاقاتنا مع الآخر، جيراننا، زملائنا في المدرسة، في الجامعة، في العمل، هل وددناهم وسألنا عنهم ووصلناهم؟!
هل حققنا التكافل الاجتماعي الذي حثنا عنه الدين، هل شعرنا بالفقير، باليتيم، بالمريض، بالمسكين والمحتاج، هل وقفنا مع المؤسسات الاجتماعية وساعدناهم قدر استطاعتنا.
هل قمنا بحملات توعية لغير المتعلمين، هل تقدمنا للتطوع في مشروعات محو الأمية؟!
هل قمنا بمتابعة نواب دوائرنا وتقييم أدائهم في دوراتهم البرلمانية؟! هل تابعنا مشروعاتهم الخدمية؟!
ثم المستوى المجتمعي الإقليمي، أمتنا العربية والإسلامية هل تابعنا أشقاءنا العرب والمسلمين في قضاياهم ومشكلاتهم؟! ألسنا أمة واحدة جسدها واحد ولغتها واحدة، جميعنا لنا أصدقاء في كل العالم العربي والإسلامي عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي، ومعظمنا مشترك في مواقع ثقافية وعلمية، فلماذا لا نوظف ذلك للنهوض بأمتنا العربية والإسلامية؟!
ثم المستوى المجتمعي الدولي، العالم أصبح بمثابة قرية صغيرة بضغطة زر عبر الأقمار الاصطناعية يأتي العالم إلينا ونحن في أماكننا، فلماذا يا من تجيدون أكثر من لغة من لغات العالم، لماذا لا تسمعون العالم قضايانا المجتمعية؟! ولماذا لا نسمعهم، ونحاول أن نقوم ما بهم من خلل ويقومون ما بنا من خلل أصابنا جراء التقليد الأعمى والتبعية البغيضة؟!
البعد الثالث: البعد السياسي
وهذا جد مهم ومهم جدًا، لماذا؟ لأن الفكر السياسي هو الذي ينظم العلاقة بين سائس ومسوس، ومن ثم لابد أن يكون السياسي على دراسة وفهم جيد بتنظيم شئون البلاد داخليا من خلال تحقيق الأمن القومي لها، ومن خلال كيفية تنظيم شئون الدولة خارجيًا حتى تتبوأ مكانتها وسط الدول المتقدمة، ومن ثم فليس كل من هب ودب نصب نفسه سياسيًا ومنظرًا سياسيًا، فإذا وكل الأمر إلى غير أهله فحدث ولا حرج.
البعد الرابع: البعد الثقافي
ويتمثل في كيفية النهوض بالأمة ثقافيًا، وكيفية إعادة هيكلة العقل المثقف وتأهيله ثقافيًا عن طريق المؤتمرات والندوات والثقافة الجماهيرية وإحياء مكتبات الأسرة، خصوصًا ونحن الآن في العطلة الصيفية، فافتحوا أبواب المكتبات أمام الجمهور وأزيحوا الغبار من على الكتب وأخرجوها من صمتها، وفعلوا ما بها من درر وجواهر.
البعد الخامس: البعد الاقتصادي
إذا ما كان ثم اقتصاد قوي، سيكون المجتمع ناجحًا ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، بل وستختفي كثير من المشكلات كالبطالة والتسرب من التعليم وغيرها، لكن كيف تحدث نهضة اقتصادية؟!
تحدث النهضة الاقتصادية عن طريق إعطاء فرص لخبراء اقتصاد، جل غرضهم الاهتمام بوضع خطط مستقبلية لنمو اقتصادي يسعى إلى تحقيق ما نصبوا إليه جميعًا تنمية مستدامة تتواءم مع جمهوريتنا الجديدة، وتتفق مع دعوة فخامة الرئيس إلى نهضة شاملة داخليًا وخارجيًا.
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان.