حينما تتاح لك الفرصة للاختلاط بالكوادر العاملة في المنظمات الدولية أو مؤسسات الدول المتقدمة، فأول انطباع سيتضح لك، هو التخصص الدقيق لكل كادر، فكل يعمل في نطاق مهامه المحددة بصورة دقيقة، وهذا الأمر واضح جداً للجميع، فتجد جميع الكوادر تعمل في نطاق متكامل بسهولة ويسر، فتكون النتيجة نجاح منظومة العمل ككل، فمهما صغر أو كبر نطاق عمل أي فرد فهو يتقنه ويتمه على أكمل وجه، ولا يوجد تداخل في المهام بأي شكل.
فمن يعمل في نطاق البحث العلمي، يجتهد ليخرج للمجتمع أفضل النتائج، ليكون هدفه الأسمى هو انتقال نتائج أبحاثه وتوصياته إلى الجهات التنفيذية لتتولى دراسة تلك التوصيات وتضع آلية جيدة محكمة للتنفيذ، فالأكاديمي في مجاله، والتنفيذي في نطاق عمله ومهامه، ولا تداخل بين التخصصات، بل هناك علاقات تكاملية، وما بين النطاقين الأكاديمي والتنفيذي تأتي المؤسسات التدريبية، التي تستهدف الارتقاء بالكوادر البشرية وتأهيلها للعمل على أحدث التوجهات التي تم اعتمادها وسيتم تنفيذها.
وإذا ما انتقلنا إلى الجانب الآخر من العالم وهو نطاق الدول النامية، فستكون الطامة الكبرى لكافة التراجعات في مختلف المجالات، هو انعدام فرص التخصص، وعدم وضوح المسيرة المؤسسية، ومن ثم انعدام التواصل مع المجتمع، والوصول إلى الفشل المؤسسي أو الإداري كما هو شائع، لتكون الظاهرة الشائعة هي اختلاط الحابل بالنابل، فالأكاديمي طموحه الحصول على منصب تنفيذي، والتنفيذي تتوارى مهاراته أمام الزحف الأكاديمي، فالأكاديمي لم يفلح في استكمال أبحاثه أو إخراج نتائجها التي تستهدف الترقي بالمجتمع ومجالاته المختلفة، والتنفيذي لم يجد الفرصة لدراسة نتائج وتوصيات بحثية محددة وتراكمية محدثة ترتبط باحتياجات المجتمع، وبالتالي المؤسسات التدريبية قد تفقد بوصلتها وتوجهاتها، ليكون الاختيار والمعيار بين المؤسسات التدريبية تحديداً، هو أنه كي تظل في الصورة فعليك أن تتبع الخطوات والتوجهات الدولية دون التفات كبير إلى الأوضاع المؤسسية المحلية، ليكون التساؤل هل المؤسسات المحلية في الدول النامية لديها القدرة على استقبال تلك التوجهات الدولية وتنفيذها بالفعل، لتكون المحصلة هي المتاهة المؤسسية.
فأول الدروس التي نتعلمها في الاقتصاد المؤسسي هي أن لكل تجربة دولية طبيعتها الخاصة، ومن هنا تأتي أهمية التكامل بين مختلف الأطراف كل في نطاق مهامه الموكلة، مع الحرص على عدم انعزال البحث العلمي، ليكون توجهه الأسمى هو الخروج بنتائج وتوصيات قابلة للتنفيذ تستهدف الارتقاء المجتمعي في كافة المجالات، على ان تتولى الجهات التنفيذية بكوادرها التعاون مع المؤسسات الأكاديمية في تحديد الفجوات وإظهارها لتوجه بوصلة البحث العلمي إلى الاحتياج المجتمعي لمجالات البحث المختلفة، وبعد الوصول إلى نتائج بحثية قابلة للتنفيذ والاتفاق على تنفيذها الفعلي، تأتي أهمية المؤسسات التدريبية في تدريب الكوادر على التوجهات المؤسسية الحديثة، كأحد الخطوات التنفيذية التطبيقية على التوجهات الجديدة، لتكون المحصلة الكلية هي تحقيق التنمية المجتمعية في مختلف المجالات كل حسب مجاله.
أما التدريب بغرض التدريب دون هدف تطبيقي أو تنفيذي؛ فلن أقول إنه لا قيمة له، ولكن قيمته ستكون محدودة للغاية وإذ ربما لن تتعدى الإفادة أو الثقافة الفردية للمتدرب إذا ما رغب الفرد في الاستثمار في قدراته وتطويرها، أما التطوير المؤسسي للدولة ككل فهو أمر آخر.
إننى أؤكد في نهاية المقال أهمية التخصص وعدم تداخل الأدوار، فالتنفيذي في مجاله، والأكاديمي في نطاق أبحاثه الهادفة للارتقاء الفعلي بالمجتمع في جميع المجالات وبالتعاون مع النطاق التنفيذي المحدد لبوصلة البحث العلمي منذ البداية، والمجال التدريبي هو القناة الضامنة لتحقيق التنمية المجتمعية التي تم تحديد ملامحها وخطواتها، أما تداخل الأدوار المؤسسية فسيؤدي إلى عدم الوصول إلى أي هدف، سوى الوصول إلى هدف واحد وهو الاستحواذ على المشهد دون نتيجة ملموسة على أرض الواقع المجتمعي.
خبيرة اقتصادية
[email protected]