الصين تحسم الجدل الذي أثير طويلًا حول "رغبتها وقدرتها" للتورط في رمال الشرق الأوسط، ولم يعد هناك شك في أن "الشريك الصامت" بات يجرؤ على الكلام، ويعمل بقوة ليصبح رقمًا لا يمكن تجاوزه في الشرق الأوسط.
.. وأحسب أن حرب غزة، وجنون نتنياهو، وتواطؤ واشنطن الفج، وعجز إدارة بايدن عن وقف حرب إبادة الفلسطينيين، أو لجم قادة إسرائيل.. أجهز على ما تبقى من "رصيد أخلاقي" للإمبراطورية الأمريكية التي تترنح، ومما لاشك فيه أن صورة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط تدهورت بقوة، والأخطر أن مصداقية الزعامة الأمريكية في العالم تراجعت بصورة لافتة، وفي المقابل استيقظ "العملاق الصيني" ليقدم رؤية أكثر جاذبية وتعاطفًا مع الشعوب المقهورة مثل الشعب الفلسطيني.
.. ومن هنا جاءت كلمة الزعيم الصيني مدوية، "لا يمكن للحرب أن تستمر إلى ما لانهاية، ولا يمكن للعدالة أن تبقى غائبة للابد"، داعيًا أمام منتدى التعاون العربي الصيني، وسط حضور لافت لقادة مصر والإمارات والبحرين وتونس، إلى تنظيم "مؤتمر دولي موسع للسلام"، حول القضية الفلسطينية، وفي ظل موقف ثابت يطالب بوقف إطلاق النار فورًا، وقيام دولة فلسطينية معترف بها من الأمم المتحدة.
.. وهنا لابد أن نسجل أن بكين لم تعد تتعمد أن تظل على هامش الشرق الأوسط، بل يمكن القول بوضوح إن "وجهًا آخر" للتنين الصيني سوف يظهر بقوة وإصرار سيفاجئ الجميع.
لقد باتت بكين طرفًا تدعوه كثير من الأطراف، فالغرب نفسه يطالبه بالتدخل لحل أزمة أوكرانيا، والمجر تقول إنها لن تترك شراكتها مع الصين، والسعودية وإيران طلبتا تدخل بكين، والتي نجحت في رعاية اتفاق مصالحة تاريخي بين الرياض وطهران، وأنشأ منتدى التعاون الصيني العربي 19 آلية مهمة، بما في ذلك المؤتمرات الوزارية والحوارات السياسية الإستراتيجية.
.. هنا يتعين أن نتوقف أمام "سر نجاح الصين"، وجاذبية "الشراكة الشاملة" التي تطرحها على دول وشعوب المنطقة، فهي تقدم "وصفة للتنمية"، وليس وجبة مسمومة من "حروب لا نهاية لها"، ولا تحرض على حرب دينية بين السنة والشيعة تحرق العالم العربي والإسلامي لقرون قادمة.
..ورغم أنها لا تتمتع بنفس هيمنة الولايات المتحدة، فيما يخص الأولويات الأمنية لدول المنطقة، فهي لا تريد المخاطرة المرتبطة بهذه القضايا، في الوقت الذي تندد بالتدخل الأمريكي، وتعرض الحوار والتعاون بديلً، وتعلن الصين بقوة أن منطقة الشرق الأوسط لا تعيش فراغًا، وأنها منطقة تضم شعوبًا ذات حضارة عظيمة، ومشكلات المنطقة يجب أن تحل من طرف دولها عن طريق المفاوضات، وهي تقدم العون ولا تفرض وصاية أو هيمنة غاشمة.
.. وفي الوقت نفسه باتت الصين مرحبًا بها؛ لأنها دخلت من باب المنفعة الواسع، تدفع بأوراقها الاقتصادية أولًا، وحققت نجاحًا باهرًا وأبرز صوره:
** الصين بشكل ثابت أكبر شريك تجاري للدول العربية لسنوات عديدة، وقد حافظت التجارة الثنائية بين الصين والدول العربية على مستوى تاريخي مرتفع يبلغ نحو 400 مليار دولار، وسط توقعات بأن يصل خلال الفترة المقبلة إلى 600 مليار دولار.
** في إطار البناء المشترك لمبادرة الحزام والطريق، نفذ الجانبان أكثر من 200 مشروع تعاون، استفاد منها ما يقرب من ملياري شخص من الجانبين.
** السنوات الأخيرة ً شهدت تعاونًا مهمًا في مجال التعاون التكنولوجي بين الصين والدول العربية، لا سيما في مجال تكنولوجيا الفضاء، ومجال تكنولوجيا الجيل الخامس، والتنمية الخضراء، وموجة جديدة من التعاون تركز على مجالات مهمة مثل؛ الابتكار التكنولوجي، والتحول الصناعي، والبنية التحتية.
** شريك كبير يستورد ربع صادرات المنطقة من البترول والغاز.
** إنجازات ملموسة مثل حوض الألواح الشمسية الأضخم في العالم، الذي أنجزته شركة صينية في أبوظبي قبيل مؤتمر “كوب”28.
.. وأحسب أن قادة بكين والقادة العرب حريصون على دفع التقارب بعيدًا، وتكشف صحيفة جلوبال تايمز الصينية في تقرير أخير عن تحول التعاون الصيني العربي من التركيز على الاقتصاد والتجارة إلى "ترويكا" الاقتصاد والأمن والثقافة، لتحقيق التنمية المستدامة.
ويقول الصديق حسين إسماعيل الخبير في الشئون الصينية إن بكين تبدي استعدادًا للعمل في مجال البنيات التحتية الرقمية ومجالات الذكاء الاصطناعي، وذلك في وقت بدأت دول الخليج التوجه باقتصاداتها لما بعد البترول.
.. وتلك المجالات بالتحديد من أهم علامات التطور النوعي في العلاقات بين الطرفين، والتي تثير مخاوف واشنطن، وأحد الأمثلة هو عمل عملاق النقل البحري الصيني “كوسكو” في ميناء خليفة بالإمارات المتحدة، والذي تتخوف الولايات المتحدة من أن يتحول يومًا ما إلى موطئ عسكري للصين في المنطقة، إذن تسارع التعاون الأمني قادم لا محالة.
.. ويبقى الإقرار هنا بأن ما تحقق من تشابك وثيق ما بين الصين والدول العربية، وخاصة قائدة العالم العربي مصر ودول الخليج لا يصدق، ولا يمكن عكسه أو إعادته للوراء، ومما لاشك فيه أن شبكة مصالح هائلة قد جرى نسجها بصبر، ولا يمكن لبكين أن تتخلى عنها بأي ثمن، والدول العربية، وخاصة القاهرة، تتبنى سياسة "التوازن الإستراتيجي"، والانفتاح بقوة على الشرق سوف تعمل، ومعها بقية الدول العربية، على تشجيع بكين أن تنخرط أكثر، وأن تحافظ على وجودها "طرفًا لا يمكن الاستغناء عنه" في معادلات التوازن في الشرق الأوسط، وفي العالم الجديد متعدد الأقطاب.