لم يتأخر المنسق العام للسياسة الخارجية في أوروبا جوزيب بوريل كثيرًا في قراءة مشاهد الرعب في قطاع غزة، وربما يكون الدبلوماسي الإسباني المخضرم صدم الرأي العام في العالم بتصريحه الشهير، قبل عامين، حول حديقة أوروبا المحاطة بالأدغال، وإمكانية غزو الأدغال للحديقة.. لقد اعتذر بعد أسبوع ولكن مع الوقت وتطور الأحداث تبدد انطباعنا الأول عن عنصريته، وفي محنة غزة أثبت الرجل القادم من الجماعة الاشتراكية الإسبانية جدارته بمنصبه الرفيع في الدبلوماسية الأوروبية.
لقد أدرك قادة إسرائيل أن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها جيشهم في غزة لا تتطلب فقط التركيز في القطاع، وإنما في كل مكان يمكن أن تصل إليه، ورغم الظهير الأمريكي الذي لا يعتقد أنها حرب إبادة جماعية، ولذا يجب أن تستمر، فإن اسرائيل التي افتقدت كل دعم سياسي ممكن، ولم تفتقد الدعم العسكري يومًا، تمارس دعاية إعلامية مكثفة ضد المجتمع الدولي بهدف قلب الحقائق، وإلقاء التهم في وجه المنتقدين، واستخدام الكذب وتجريح الخصوم.
فقد اتهمت إسرائيل منظمة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والعاملين بها بمساعدة حركة حماس، وأسندت إلى الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش جعل المنظمة الدولية معادية للسامية، أما طلب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق رئيس الحكومة نيتانياهو ووزير دفاعه جالانت فهو "أمر فاضح وشائن" و"يشجع الإرهابيين في العالم"، بينما وصف وزير الأمن بن غفير قرار محكمة العدل الدولية بوقف الحرب في رفح بأنه معادٍ للسامية.
تطور موقف بوريل مع الوقت بشكل ذكي ومقنع، فقد أدان هجمات حماس في السابع من أكتوبر، ثم خلال زيارته الأولى لإسرائيل بعد الهجمات بنحو أربعين يومًا، نجده يحثها على ألا يعميها الغضب في ردها على هجوم حماس، قائلًا "إن رعبًا واحدًا لا يبرر آخر".
وتمكن بوريل من قراءة الرعب القادم فحقق موقفًا متوازنًا في ذلك الوقت المبكر من حرب الإبادة، رغم حرصه على زيارة مستوطنة بئيري التي هاجمتها حماس في عملية طوفان الأقصى، مسترجعًا ذكرياته الشخصية حيث عمل متطوعًا في نهاية الستينيات.
وبعد عودته من إسرائيل شارك بوريل في منتدى الاتحاد من أجل المتوسط بمدينة برشلونة بإسبانيا، وقال إنه لا يمكن السماح لإسرائيل بإعادة احتلال غزة، وأكد أن "الفلسطينيين والإسرائيليين لديهم حق متساوٍ ومشروع في الأرض نفسها"، وأن إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة "أفضل ضمانة لأمن وسلام إسرائيل"، ثم نقرأ تصريحًا عنيفًا لبوريل عن إسرائيل التي تتوعد حماس وتلاحقها لتدميرها هي التي مولت إنشاء الحركة.
ويمضي بوريل وهو يتابع الخراب والقتل والتجويع في غزة ليطالب حلفاء إسرائيل، وخصوصًا واشنطن، بوقف تزويدها بالأسلحة، والتقط بوريل تصريحًا للرئيس بايدن في مطلع فبراير الماضي، قال فيه إن العمل العسكري الإسرائيلي في غزة "تجاوز الحد"؛ ليقول بوريل: "حسنًا.. إذا كنت تعتقد أن عددًا كبيرًا جدًا من الناس يُقتلون، ربما يجب عليك إرسال أسلحة أقل من أجل منع قتل هذا العدد الكبير من الناس"، في ذلك اليوم في بروكسل، وكان بجواره المفوض العام لوكالة "أونروا" فيليب لازاريني، انتقد بوريل أوامر نتنياهو بـ"إجلاء" أكثر من مليون فلسطيني لجأوا إلى مدينة رفح في غزة قبل اقتحامها، وسأل بوريل "سيتم إجلاؤهم (...) إلى أين؟ إلى القمر؟"، وكان على صواب، فالذين نزحوا تم قتلهم وحرق أطفالهم بالأمس في مخيم للنازحين تابع للأونروا، أما "إلى أين؟ إلى القمر".
ولم يكف بوريل يومًا عن المطالبة بوقف الحرب، أما اجتياح رفح فقد رفضه بشدة؛ لأنه سوف يتسبب في سقوط الكثير من الضحايا بين المدنيين "مهما قالوا" وجدد رؤيته ورؤية العالم كله من أنه "لا توجد مناطق آمنة في غزة".
في مقاله على موقع "بروجيكت سنديكيت" (المقر الرئيسي في براغ) في شهر مارس الماضي، كتب بوريل أن "عنف المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية يهدد بشكل متزايد حياة الفلسطينيين وسبل عيشهم، مع الإفلات من العقاب دائمًا"، وأن "العمليات العسكرية الإسرائيلية تتسبب في قتل مدنيين فلسطينيين، في كثير من الأحيان، دون مساءلة فعالة" و"المستوطنات غير الشرعية آخذة في التوسع"، و"بينما يمكن للإسرائيليين الاعتماد على دولة قوية وجيش، فإن الفلسطينيين ليس لديهم مثل هذا الملاذ".
انتقد بوريل تصريحات وزير المالية سموتريتش، التي أنكر فيها وجود الشعب الفلسطيني، وتساءل: هل يمكنك أن تتخيل لو قال زعيم فلسطيني إن دولة إسرائيل غير موجودة ".. ماذا كان سيكون رد الفعل؟".
إن أكبر دبلوماسي في الاتحاد الأوروبي رد على الهياج العظيم في إسرائيل بعد قرارات المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدولية، بضرورة تطبيق القرارات، رافضًا تهديد القضاة، وقال إن الاتهامات بمعاداة السامية توجه في كل مرة يقوم فيها أي شخص "بشيء لا يعجب نتنياهو".
ربما زار الندم ابن كتالونيا على عمله التطوعي في مستوطنة إسرائيلية قبل أكثر من خمسين عامًا، وربما يشعر الآن بضغط عظام سمكة "مارلين" الضخمة التي اصطادها العجوز سانتياجو في رواية هيمنجواي بعد أن جردتها أسماك القرش من اللحم..