قد يظن بعض القراء الأعزاء أن المقصود هنا هو الأندلس بعينها، أو ليلة سقوط بغداد بعينها، لا نقصد بذلك مدنًا بعينها، وإنما هذا تعبير مجازي، نعبر به ومن خلاله عن حال أمتنا العربية والإسلامية الآن، فما أشبه اليوم بالبارحة، فعندما فتحت الأندلس وازدهرت الخلافة الإسلامية، وأصبحت الأندلس معقلًا للفنون والآداب والثقافات جميعها، حسدنا الغرب المتغطرس على نهضتنا وحضارتنا وقوة شكيمتنا وتقدمنا اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وعسكريًا، فراحوا يكيدون لنا المكائد من أجل استرداد ملكهم الزائل، فحاولوا التعسكر وتجييش الجيوش، وكلما تقدموا خطوة أبعدهم الرجال خطوات، فلا طائل ولا طاقة لهم بالمسلمين لعدتهم الروحية وعتادهم العسكري.
فماذا يفعلون، أرسلوا رهبانهم لتفقد أحوال الأندلس، فوجدوا شابًا ينتحب من البكاء، سألوه: ما الذي يبكيك أيها الفتى؟ قال: ذهبت لأستهم، أي أتعلم التنشين، فأصبت تسعة شواهد من عشرة، فبكيت إذ لم أحقق النتيجة النهائية! فقال له الراهب: هذه نتيجة مرضية! فقال له: وما أدراك أن هذا العاشر الذي لم أصبه أن يكون عدونا فيقتحم بلدتنا ويهزمنا!!
هرول الراهب مسرعًا إلى قومه، قائلًا: لا طاقة لكم بالمسلمين الآن، قالوا: فماذا نفعل إذن؟! قال: إليكم الحل الناجع، سلطوا عليهم الدنيا، أرسلوا إليهم الغانيات والراقصات والفاتنات، املأوا قصورهم بالأغاني والأشعار والبذخ والترف!!
فباتت قصور الأمراء كالحانات والخمارات، فثقلت الرؤوس عن الصلاة وعن صنوف العبادات!! وليس هذا فحسب؛ بل نشروا الفتن بينهم، وسلطوا السفهاء، وجعلوهم يولون القضاء للجهلة والحمقى، الذين لا يحكمون بالعدل بين الناس، فاستشرى وانتشر الطغيان والظلم، وكثر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس، وبظلم الناس بعضهم بعضًا.
وعاد الراهب مرة أخرى، فوجد شابًا ينتحب بكاءً، فسأله: ما الذي يبكيك بني؟ فماذا تتوقعون أن تكون الإجابة؟! قال: أعطيت موعدًا لمعشوقتي فلم تأتِ، فوقفت أندب حظي وأبكي!!
عاد الراهب إلى قومه، قائلا: الآن الآن عليكم بالمسلمين، وسقطت الأندلس وسقطت الخلافة الإسلامية وانفصمت عراها، ووقف الخليفة يبكي وهو يسلم مفاتيح الأندلس، بعد أن تسلمها الأسود، وقف يسلمها وهو يبكي، فقالت له أمه: هيا أبكِ كالنساء على ملك ضيعته أتى به الرجال.
قس على ذلك سقوط بغداد على أيدي خونة بغداد الذين باعوها وباعوا ملكًا عضوضًا بالدولارات والمساكن الفاخرة، ضيعوها بالمؤامرات التي انتهت بالغدر بالأبطال، فما إن تنهض دولة وتقف وتقول أنا هنا ذات عدة وعتاد، ذات قوة ومنعة، ذات تسليح، ذات اقتصاد إلا ويهب عباد الشيطان من غرب متطرف لا يرقبون فينا إلًا ولا ذمة، دأبه وديدنه الكيل بمكيالين، مستعملين أذرع الشيطان من داخل هذه البلدان لتدميرها.
وهذا هو ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، عندما ذكر لأصحابه أن أشد ما يخشاه علينا التشتت والتشرذم والتفرق والتحزب، وظهور فتن ستكون كقطع الليل المظلم، وأن ذلك لن يكون من قلة، بل سنكون غثاء كغثاء السيل.
وهذا هو الحادث، أمة مسلمة عددها يقارب المليار وثمانمائة مليون نسمة، ولا نستطيع التصدي لدويلة تجمعت من الشتات، لماذا؟! لأننا أمة أصابها الوهن والضعف، سلطوا علينا الدنيا فاخترقتنا بمغرياتها المادية، أخذوا ديننا وإسلامنا وقيمنا وعاداتنا وتقاليدنا ومبادئنا وطبقوها عليهم، فارتقوا وتقدموا ووصلوا إلى قمة التقدم العلمي، ونحن ماذا فعلنا وماذا أخذنا؟! أخذنا الرذائل واعتنقناها، أخذنا منهم التقليد الأعمى بكل ما تحمله كلمة تقليد، فقلدنا العري والشذوذ وقصات الشعر بأنواعها، استغرقنا بالكلية وضاع وقتنا فيما هو طالح، وهذا حدث بأيدينا لا بأيدي أحد، لم نغلق أبوابنا في وجه كل ما هو قميء، بل عانقناه معانقة حميمية، فانخرطنا في سلك الرذيلة ووقعنا في شراكها، نحن لا نرفض التقدم والمدنية والحداثة والمعاصرة، لكن لابد أن تكون هناك ضوابط لهذا الانفتاح الحضاري، نأخذ ما هو صالح ونطرح ما هو طالح قابح.
النتيجة الحتمية، انتشرت الرذائل بكل أنواعها، فساد ومنكر ودعارة ومخدرات، بحجة الحرية، لكن الحرية مسئولية، أهملنا صلواتنا، عباداتنا صلة أرحامنا، الأنا العليا والأنانية وحب النفس، تغليب المصلحة الشخصية على مصلحة الأوطان، التشكيك في المعتقد وضربه في الصميم، تجويف وتفريغ العقول من كل ما هو محترم وملؤها بكل ما هو غث ورديء.
كل هذه الأمور مقدمات للسقوط وتمهيد للنهاية، ومساعدة مباشرة في ضياع الأمة العربية والإسلامية، بأيدينا لا بأيدي أحد، ليس هذا فحسب، بل وتمكين لتحقيق حلم الصهيونية العالمية، وتحقيق بنود بروتوكولات حكماء صهيون، وتحقيق حلمهم الاستعماري الشيطاني.
فهل نحن منتهون؟! هل نحن مدركون حجم الخطر العظيم الذي سيحل بأمتنا؟! فماذا نحن فاعلون؟! مصمصة الشفاة لا تجدي مع هؤلاء، وإنما لابد من خطوات جادة للتصدي لكل هذه الحملات الشرسة كل في موقعه ومكانه.
وأولى هذه الخطوات ما يلي:
الإيمان الكامل المتحقق باليقين أن قضايانا عادلة، ولنا الحق في العيش كما لهم الحق في الحياة، فالحياة متسعة للجميع، وأنه لا شرق هناك ولا غرب، وإنما الإنسان بما هو كذلك، ومن ثم طرح الأنانية والعنصرية والطائفية، فليس ثم أجناس سامية وأخرى آرية، فإنه ينبغي على الجميع أن يعامل الإنسانية متمثلة في شخوصهم.
أما ثاني هذه الخطوات، فهي الدعوة الجادة إلى طرح الشائعات جانبًا، وعدم إعطاء الإذن إلى القيل والقال، وإغلاق الأبواب أمام كل ما هو مرذول وسيئ، وفتح الباب أمام كل ما هو مفيد بعد درسه درسًا جيدًا للاستفادة منه، وعدم السماع إلى المغرضين المأجورين الذين لا يريدون الخير لأمتنا العربية، وعدم الفتوى بغير علم، فليس كل من سمع كلمتين في السياسة بات سياسيًا بارعًا يتحدث في السياسة أو الاجتماع أو الاقتصاد، أو الدين، وإنما إعطاء أصحاب العلوم الحقيقية الفرص كاملة ليقولوا كلمتهم كل في مجال تخصصه..
لنأتي إلى ثالث الخطوات، تنمية الوعي لدى المواطن العربي وإحاطته علمًا بالمخاطر التي يتعرض لها وطننا العربي والإسلامي، عن طريق إعلام راقٍ محترم يقدم معلومة حقيقية لا مغلوطة ولا مجتزئة؛ عن طريق استضافة خبراء من ذوي الخبرة فى التنمية، وأهمها تنمية الموارد البشرية، والتنبيه إلى خطر الاستماع إلى القنوات التي تبث من خارج الوطن العربي، التي ليس لها هم إلا النيل من سلامة واستقرار الأوطان، والتشكيك في كل منجز تم أو سيتم على أرض الواقع.
أما الخطوة الرابعة، فهي تنمية روح المواطنة عند أفراد الشعوب، ليس هذا فحسب؛ بل تنمية روح العروبة والقومية العربية عند الأفراد، وأن الأمة العربية جسد واحد إذا اشتكى منه عضو اشتكت سائر الأعضاء ومرضت على مرضه.
الخطوة الخامسة، الاهتمام بالتعليم والمعلمين فما نهضت أمة إلا من خلال العلم والاهتمام به، فما علمنا أمة قامت على الجهل.
الخطوة السادسة، الاهتمام بالبنيات التحتية للبلاد العربية عن طريق الاهتمام بالمشروعات القومية العملاقة التي تجذب المستثمرين إلى بلادنا العربية، وإذا ما تحقق هذا الاهتمام ستتحقق التنمية المستدامة التي نسعى إليها بما يحقق توازنًا وتكاملًا في كافة المجالات.
نعم آن الأوان أن نستفيق من سباتنا، ونهب على قلب رجل واحد للحفاظ على مقدراتنا وممتلكاتنا وأمتنا العربية والإسلامية.
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان