مصارحة ومكاشفة المواطنين بقضايا العمل الوطني من أهم مرتكزات السياسة الداخلية التي يحرص عليها الرئيس السيسي طوال السنوات الماضية، وهو نهج طيب وسنة محمودة تعكس احترامًا وتقديرًا للشعب الذي يجب أن يكون على اطلاع لمجريات الأمور وشئون حياته، ويصبح مشاركًا وداعمًا ومساندًا، بل ومتفهمًا للأعباء التي ربما قد تترتب على بعض السياسات.
وجاء حديث الرئيس السيسي أمس خلال افتتاح عدد من المشروعات التنموية بجنوب الوادي حول قضية الدعم الذي تقدمه الدولة مجسدًا لهذا النهج ومعبرًا عن تلك الركائز، إذ إنه أكد ضرورة قيام الحكومة بشرح أبعاد ملف الدعم؛ خصوصًا الخبز والوقود، وإن ما تقوم به الحكومة من تخفيف للأحمال في الكهرباء هو بهدف عدم زيادة فاتورة استهلاك الكهرباء، كما أن قيام الحكومة أيضًا بزيادة نسبة خليط الذرة في إنتاج رغيف الخبز هو بهدف عدم رفع سعر الرغيف على 5 قروش.
والحقيقة أن ملف الدعم من الملفات المهمة التي توليها الدولة المصرية أهمية وأولوية، رغم ما يمثله من عبء كبير على موازنة الدولة، ورغم ما يشوبه من خلل يجعله أحيانًا لا يذهب إلى مستحقيه، وتكفي الإشارة إلى بند الدعم والحماية الاجتماعية في الموازنة، كان قبل 10 سنوات مثلًا لا يتجاوز 150 مليارًا، بينما زاد في موازنة 2024 – 2025 إلى ٦٣٥,٩ مليار جنيه، مقارنة بـ ٥٢٩,٧ مليار جنيه في العام المالي الحالي، وبمعدل نمو سنوي ٢٠٪، وهو ما يعكس التزام الدولة بمساندة محدودي الدخل.
وتكفي الإشارة أيضًا إلى أن الموازنة الجديدة تضمنت تخصيص ١٣٤,٢ مليار جنيه لدعم السلع التموينية مقارنة بـ ١٢٧,٧ مليار جنيه خلال العام المالي الحالي و١٥٤,٥ مليار جنيه لدعم المواد البترولية، مقارنة بـ ١١٩,٤ مليار جنيه بنسبة زيادة ٢٩,٤٪، وزيادة دعم برامج الإسكان الاجتماعي بنسبة ١٦,٥٪ ليصبح ١١,٩ مليار جنيه مقارنة بـ ١٠,٢ مليار جنيه في العام المالي الحالي، و١٠,١ مليار جنيه للعلاج على نفقة الدولة، مقابل ٨,١ مليار جنيه في العام المالي الحالي، و٨,٣ مليار جنيه للتأمين الصحي والأدوية مقارنة بـ ٦ مليارات جنيه بزيادة ٣٨,٣٪ عن العام المالي الحالي.
كثيرة إذن هي الأرقام وكبيرة هي قيمتها في دولة محدودة الموارد ومتواضعة الإنتاج، ورغم ذلك تظل مساندة المواطن من ثوابث الدولة، ولعل ما تقوم به الحكومة من إجراءات وسياسات هي بالدرجة الأولى تهدف إلى عدم زيادة الأعباء في ظل تحديات وتداعيات مستوردة من الخارج لا ناقة لنا فيها ولا جمل، فقد كان المأمول ألا ترتفع أسعار الوقود المستورد اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، فلا ترتفع بالتالي الفواتير على المواطنين، لكن ما حدث أن زادت الأسعار بشكل جنوني أجبر الدولة على تحمل فاتورة الفرق من خلال الدعم المقدم للوقود، ولكن مع زيادة الأعباء وارتفاع التكليف ارتأت الدولة اللجوء إلى حلول اقتصادية؛ مثل قطع التيار لمدة ساعة أو ساعتين فقط، وهي آلية تضمن حصول المواطن على الكهرباء دون زيادة في السعر، وتحقق للدولة نسبة من الوفر في استهلاك الوقود بالمحطات، وبلغة الأرقام أيضًا فإن تكلفة تشغيل ساعتين لمحطات الكهرباء بدل من تخفيف الأحمال -كما قال وزير المالية في مداخلة تليفزيونية أمس- يحتاج 300 إلى مليون دولار إضافي شهريًا، بما يوازي 3.5 مليار دولار سنويًا، وفي ظل وجود فجوة بين تكاليف التشغيل والإيراد المحصل، لا تستطيع وزارة البترول تغطية هذه الفجوة الناتجة عن التكاليف الإضافية.
بنفس الآلية وبذات التحديات تبرز قضية دعم رغيف الخبز، ففي الوقت الذي يباع فيه سعر رغيف الخبز للمواطن بـ 5 قروش فقط، تصل تكلفته إلى 125 قرشًا، وتتحمل الدولة الفرق، وهو ما يشكل عبئًا على موازنة الدولة، إذ إن إجمالي إيرادات رغيف الخبز المبيع بالسعر المدعم تصل إلى 5 مليارات جنيه، بينما تدفع الدولة 125 مليار جنيه، لذا ارتأت الدولة زيادة نسبة الذرة في الدقيق إلى 20%؛ لتقليل التكلفة بنسبة معينة، مع الحفاظ على سعره مع الأخذ في الاعتبار أن دقيق الذرة صحي ومفيد كغذاء؛ لأنه غني بالكربوهيدرات والبروتينات، بل ويوصف للرياضيين ليمنحهم الطاقة.
المؤكد أننا في عالم تعتصره التحديات والأزمات، وتعصف به الحروب والنزاعات، وما من دولة على وجه الأرض إلا وتعرضت لهذه التحديات خلال السنوات الماضية، وربما تتفاوت درجة التأثير والحدة حسب القوة الاقتصادية للدول، وأعتقد أن مصر رغم محدودية مواردها، وما يحيط بها من تحديات وأزمات في محيطها الجغرافي وعلى حدودها، نجحت في امتصاص الكثير من الصدمات بفضل بنية اقتصادها الذي قامت ببنائه خلال السنوات العشر الماضية.
فالدول الأوروبية على سبيل المثال -رغم قوتها الاقتصادية- شهدت موجات كبرى من التضخم وارتفاع الأسعار ونقص السلع، وصولًا إلى انقطاع الكهرباء لتقليل استهلاك الوقود، بل لجأت المفوضية الأوروبية إلى إصدار قانون بعد نشوب الحرب الروسية – الأوكرانية باسم "قانون تخفيض استهلاك الغاز المستخدم في إنتاج الكهرباء"، وفي ألمانيا تم تقييد التدفئة في المنازل، وتحديدها بدرجة حرارة لا تتعدى 20 مئوية، وإيقاف الماء الساخن في الحمامات العمومية، والحمامات في المباني العامة التي تديرها المدن والمراكز الترفيهية، وإطفاء الأنوار عن المعالم السياحية والنصب التذكارية والمباني الحكومية، وفي فرنسا تم الإعلان عن خطة لتخفيض استهلاك الكهرباء، والتي تشمل حظر الإعلانات المضيئة.
وفي إيطاليا تم مطالبة المواطنين باستهلاك كميات أقل من الكهرباء والغاز، بل إن دولا مثل بريطانيا تشددت في قطع الكهرباء لتوفير الوقود والغاز المستخدم في تشغيل المحطات.
إذن هي إجراءات تفرضها ظروف معينة، تراها الدولة استثنائية، ثم تعود الأمور إلى طبيعتها، ومصر جزء من العالم وتتقاسم معه التحديات والأزمات والتداعيات، لكن حين يزايد بعض المغرضين والمتآمرين على مصر في مسألة تخفيف الأحمال عن جهل، فإن تلك الأبواق المأجورة باتت مفضوحة النوايا ومكشوفة المقاصد، ولم تجد لها آذانًا مصغية؛ لأن المواطن أصبح لديه من الوعي والفطنة ما يجعله لا يتوقف عند هذه الأكاذيب المغرضة، التي تستهدف بث روح الإحباط، وطمس حقيقة الإنجازات الكبرى التي تحققت في قطاع الكهرباء.