لا أدري لماذا تذكرت هذا الأمر الآن؟ ربما كان عتابًا للنفس لما وصلت إليه من هجر للمعشوق الأول والصديق الصدوق.. الكتاب.
لم أتصور يومًا أن أفارق هذا الخل الوفي فلا نلتقي إلا كلما اشتقت إليه، أذهب إليه فأزيح عنه الأتربة، وأنظر إليه معاتبًا نفسي وإياه كيف وصل الأمر إلى هذا الحد من الاغتراب بيننا؟ فأجده لا حيلة له في الرد على سؤالي.
ما أتذكره أن تلك الفرقة وهذا البعاد لم يبدآ إلا منذ أن اقتحم الكمبيوتر والموبيل حياتي، وأصبحت الشاشة هي السبيل الوحيد والأسرع لأتفقد صديقي في هذا النيولوك الذي أرادوه له ففعل به الأفاعيل، قلصوه وحولوه إلى مجرد صورة جامدة صماء، تألمت وأنا أراه وقد فقد حيويته تمامًا فلا حركة ولا حراك، أصبح آليًا تنقلب صفحاته بضغطة زر على الكيبورد، ذهبت أوراقه التي كنت أستمتع بملمسها وأحرص كل الحرص وأنا أقلبها، لم يعد هناك فرصة للإمساك به واحتضانه لأسرح مع كلماته وعباراته.. انتهى كل شيء.
لم تأت تلك العلاقة من فراغ، فقد كان صديقي بجواري في كل لحظة، يلتزم مكانه دومًا في حقيبتي وبجانب سريري، كان يعلم جيدًا أنه لا يمكنني النوم إلا بعد أن نتحادث معًا، وبعد أن ننتهي أضعه بجانبي بمنتهى الرفق والاطمئنان إلا أنه لن يفشي لي سرًا بحت به أو يعلن على الملأ فكرة مرت بخاطري.
أما الآن فها هو الموبيل والكمبيوتر جاءا معًا ونجحا في إزاحة هذا الصديق جانبًا، نفذا خطتهما بمنتهى الإتقان، عرضا خدماتهما فأخضعاني بكامل إرادتي لقوتهما التي لا تقهر، بل وربما شكرتهما لسرعتهما الفائقة التي لا تنكر، ولم لا والمعلومة تأتيك حيثما كنت ووقتما تأمر.
رغم ذلك ما زلت لا أثق فيهما ثقتي في صديقي القديم، لقد اتبعت قواعدهم ولعبت بنفس قوانينهم، فوجدت نفسي بأفكاري وخواطري مباحًا للجميع، وكأنني أسير عاريًا في ميدان كبير، والجميع ينظر ويتأمل، وربما يشتم ويسب ويلعن دون سبب، فقط لأنني اتبعت قواعد اللعبة التي فرضوها على الجميع.
الذهاب إلى المكتبات وتفقد الكتب وشرائها متعة كبيرة لم تعد تتوافر، إما للانشغال أو لغلاء الأسعار، أو للاكتفاء بالحصول عليها من على الإنترنت، لا يمكن أن أنسى سعادتي بشراء الكتب من معرض الكتاب وعودتي بها إلى المنزل، وكأنني قد اكتشفت مغارة علي بابا وغرفت من كنوزها غرفًا.
كلما جلست في مكتبي الصغير، وتأملت كنوزي المتراصة على الأرفف تعلوها الأتربة، وقد أضحت وحيدة ينتابني شعور غريب بأنها تعاتبني، ما مصيرنا عندما يجيئ الأجل، ماذا سوف يفعل بنا أبناؤك؟ هم جيل لا يعرفنا، لم يجرب صداقتنا يومًا، جيل نشأ فوجد مصدره الوحيد للاطلاع هو الكمبيوتر والموبيل.
لا أشك فى أن يكون مصيرها المنتظر هو بائع الروبابيكيا، ومنه إلى أكشاك الكتب القديمة، وياليت الأمر ينتهي عند ذلك الحد، أقسم أنني كنت لأرتاح في قبري، طالما أن هناك من سوف يعيد إليها الحياة، لكن الواقع يؤكد أن شراء الكتب قد أصبح "موضة قديمة" لا حاجة لها.
هل هى ثقافة ترتقى بنا إلى ذلك العالم الرقمى الذى يعتبر أتباع "الكتاب الورقى" من زمرة أهل الكهف؟
اللغز المحير أننا لم نرفضها؛ فهي قد وفرت لنا الكثير وبخاصة للباحثين، كنت أمضي أيامًا أجوب المكتبات للحصول على كتاب، كنت أقضي ساعات وساعات بين الأرفف متعقبًا لبحث منشور في إحدى المجلات العلمية، وقد ينتهي اليوم دون أن أحصل عليه، بينما العالم الرقمي تجاوز كل ذلك بضغة زر واحدة في الموقع الخاص بالمجلة، إنجاز رهيب دون شك.
لكنني أتحدث عن الصديق، لماذا لا أجد طعمًا عندما أجلس أمام الكمبيوتر أو الموبيل لأقرأ كتابًا لطه حسين أو الحكيم أو يحيى حقي أو ديستوفسكي؟ لماذا أشعر وكأن الكتاب الذي يظهر على الشاشة حجر أصم؟ في حين أنني عندما أمسك بنفس الكتاب بين يدي أشعر أنه يحادثني بلغة خاصة لا يفهمها سوانا، أحس بدفء ينبعث منه ويحيط بي.
لا أدري هل أبالغ في ذلك، أم أن هناك آخرين لديهم نفس الشعور؟
لا أدري إن كان هناك أحد ما زال يفهم حديثي؟
لكن القلم.. جرى بما يريد وقضي الأمر.