راقبته طويلًا وهو يمسك بهاتفه المحمول منشغلًا بإحدى الألعاب الإلكترونية التي توفرها له عولمة طاغية تسرق عمره وتحتل تفكيره، تسطو على خياله فارضةً شروطها، تسحبه معها لأعماق بحار رمالها المتحركة لتبتلعه وتفصله عمن حوله، فكرت في أن أقاطعه؛ لأسأله عن حجم متعته ومقدار سعادته لأقارن بينها وبين متعة وسعادة طفل الأمس، لكني تراجعت وعدت متجهة إلى عزلتي، تركت لخيالي العنان وسافرت لزمن طفولتي، تذكرت كم كنا سعداء باختلافنا عن هذا الجيل المشتت الذي يمارس ألعابًا لا تفيده بقدر ما تضره وهو واهم مسكين يظن أن هذا هو اللعب.
كانت اللعب التي بحوزة الأطفال في الماضي تخلق منهم شخصيات منفردة بذاتها، تشكلهم كقطع من صلصال وتلقيهم بين أيدي الخيال، تخلق منهم أشخاصًا مميزين، تمنحهم سمات تؤهلهم لكي يكونوا هم أنفسهم وليسوا غيرهم، كانت البنت حين تحتضن عروستها الصغيرة التي كانت تصنع أحيانًا من قطن وقماش وخيوط، تحبها كما هى برغم بساطتها، تحدثها كصديقة تدعمها وتوجهها، تخاطبها كأم تجتهد لكي تحسن تربيتها، ترشدها حين ترى سلوكًا سيئًا يصدر ممن حولها، فيؤلمها ويؤثر فيها فتسقطه عليها في محاولة لمعالجته على قدر تفكيرها وصغر سنها، تنهرها تارة وتقبلها تارة أخرى، تضعها أمامها وتحمل عصًا صغيرة في يدها، تقف كمعلمة ماهرة لتشرح الدرس لها، توبخها إن انصرف عنها ذهنها أثناء شرحها، تعاقبها إن لم تقم بأداء الواجبات المقررة عليها، الدمية كانت تشبه كائنًا حيًا يجمع الأم والصديقة والمعلمة، ولا أبالغ إن قلت وربما يصل إلى الجيران والعائلة.
الولد يمتلك لعبًا تختلف بالطبع عما تقتنيه البنت، فهو يمسك بسيارة ليقوم بتشغيلها، يتفحص أجزاءها، يفككها قطعًا ثم يعيد تركيبها، أو ربما يملك طائرة أو دبابة أو مكعبات من الخشب يصنع منها لوحات معبرة، يسافر معها عبر خيال يتسع لمشاهدة كل أحلامه، يلمس عن قرب سمات شخصيته ويحدد نمط تعلمه المفضل، من خلال ممارسته للهوايات التي تحدد ميوله وتكون صفاته؛ حتى إذا ما وصل لسن الالتحاق بالمدرسة سار بخطى ثابتة ليحقق أهدافه وأمنياته بهمة عالية وبنفس راضية.
كانت الألعاب البسيطة تدفعنا للتفكير متأثرين بالواقع الذي نعيشه، فحياكة ثوب عروسة صغيرة -مثلًا- كان يتطلب مهارة ما، وشعور صادق بالحاجة لمساعدة الكبار، لذا فهى كانت تعلمنا قيم التعاون وتجاوز الخجل من طلب المساعدة بأسلوب راق يحقق معنى حسن الاستماع وأدب الحوار، وقد يلجأ هذا الطفل الصغير لأحد الكبار لسؤاله عن شيء استوقفه أو أثار انتباهه وهو يمسك بلعبته عاجزًا عن تفسير شيء ما بداخلها فيتعلم حينها أن الكبار يعرفون أكثر منه بحكم السن وتكرار التجارب وزيادة الخبرات، فيسلم عن قناعة بهذا الفرض؛ ويستسلم للمبدأ السائد في هذه الحياة، المبدأ الذي يؤكد اختلاف عقلية الكبار عن عقلية الصغار ليترك بعدها الجدل وبعض العناد.
أذكر أننا كنا نلعب ألعابًا آتية إلينا من وحي أفكار من سبقونا، وكذلك كنا نبتكر ألعابًا من وحي خيالنا، خيالنا الخصب الذي مهد لنا الأرض من حولنا لكي نتعلم أن نكون ما نريد وليس ما يريده غيرنا.
الألعاب الإلكترونية بعضها قد يكون جيدًا وأغلبها يشكل خطرًا على أطفالنا، وربما يهدد حياتهم بأكملها؛ حين تدفع بهم لتبني أفكار هدامة تحجمهم وتقيد قدراتهم، تحرمهم من مهارة التفكير الفعال وسعة الخيال، حين تنسخ من أطفالنا نسخًا غير سوية لا تمثلهم ولا تمثلنا.
راقبوا أطفالكم جيدًا، اقترحوا عليهم ألعابًا أخرى، ولا تخجلوا من ممارستها معهم، قاسموهم أحلامهم وتوقفوا عن نهرهم، اشرحوا لهم وجهة نظركم بالشكل الذي يناسب مستويات إدراكهم.
الغفلة لن تعفينا من تحمل المسئولية، والانشغال لن يشفع لنا، فلنحافظ على أطفالنا فهم غراس أعمارنا.