التغيرات المناخية دفعت السكان نحو الأنهار نتيجة الجفاف وندرة الأمطار فظهر نمط جديد من المجتمعات فى مصر
موضوعات مقترحة
النيل علم المصرى القديم فصول السنة وأساسيات الأخلاق وبدء التقويم الشمسى الذى يتفق مع الزراعة
آمن المصريون القدماء بالنيل لأنه الضامن لحياتهم من مهالك القحط والضيق
«عروس النيل» قصة لا أساس لها من الصحة فالمصريون لا يلقون ببشر أحياء فى النيل
كان النيل وسيلة المواصلات الوحيدة والشريان الذى يصل الدنيا ببعضها بعضا
دأب الكهنة والمصريون على ترديد أناشيد وترانيم للنيل عرفانا بقدره ونعمه على الناس
الدكتور وسيم رشدى السيسى، أستاذ جراحات المسالك البولية، باحث فى التاريخ المصرى القديم والعاشق له، فمن لا يعرفه يعتقد أنه أحد علماء المصريات، وأحد مكتشفى أسراره، لكنه تخصص فى هذا العلم بالبحث والولع الشديد به على مدار سنوات طويلة فى حياته، فنجد له العديد من الأحاديث والبرامج والمقالات والأحاديث الصحفية عن عظمة الحضارة المصرية، وكان الدكتور وسيم السيسى، قد نشر عددا من المؤلفات فى علم الآثار، منها كتاب: «نظرة طبية فاحصة فى الحب والجنس»، وكتاب «مصر التى لا تعرفونها»، وكتاب «المسكوت عنه فى التاريخ»، كتاب «هذه هى مصر»، كتاب «إحنا مين؟!»، وكتاب «مصر علمت العالم»، وكتاب «فى البدء كانت مصر» ومعه كان هذا الحوار.
> فى البداية ماذا كان يسمى نهر النيل عند القدماء المصريين؟
نهر النيل هو أطول أنهار العالم، يطلق عليه لقب " أب أنهار إفريقيا"، ينبع من جنوب خط الاستواء، ويجرى منسوبه نحو الشمال الشرقى لقارة إفريقيا، ليصب فى البحر الأبيض المتوسط، حيث يصل طول نهر النيل نحو 6,650 كيلومتراً، ليصب فى مساحة تقدر بـ 3,349,000 كيلو متر مربع، أما تسمية نهر النيل، فقد جاءت مُشتقة من الاسم الإغريقى، Neilos الذى فى الغالب يعنى نهر الوادى، حيث لم تشهد حضارات عظيمة مثل حضارة كل من الإغريق والمصريين القدماء نهراً بعظمة نهر النيل الذى كان يفيض فى مواسم الصيف خلال رحلته من الجنوب إلى الشمال، أما المصريون فقد كانوا يطلقون عليه اسم (aur) وتعنى اللون الأسود دلالة على كمية رواسب الطمى، التى كان يحملها نهر النيل، عندما يفيض على ضفافه، حيث يتسم طمى النيل باللون الأسود الداكن.
وعندما نقرأ كتابات المؤرخ "مانيتون السمنودى"، الذى ترك لنا كتابا ضخماً عرف باسم "إيجيبتياكا"، الذى سجلت فيه أسماء الحكام والأسر الحاكمة وأعمال كل حاكم منذ توحيد القطرين على يدى نارمر، وصولا لسنة 323 قبل الميلاد، كما قسم مانيتون الأسر الـ30 التى حكمت مصر إلى ثلاثة أقسام، وهى الدولة القديمة، والدولة الوسطى، والدولة الحديثة، وهو التقسيم الذى اعتمد عليه علماء المصريات والمؤرخون حتى الآن، وفى كتاب "إيجيبتياكا"، يقول لنا إن العصر المطير الذى عرف بعصر السافانا منذ نحو 2 مليون سنة، قبل بدء عصر الجفاف الذى يقدر بـنحو 11 ألف سنة مضت، وقد بدأت القبائل كلها فى أن تبحث عن مصدر للماء، ليتجمعوا حوله، وكان هناك أكبر قبيلتين هما قبيلة "نيلوس" وأخذنا الاسم منها "النيل" والقبيلة الأخرى "جيبتنا"، التى تحولت إلى إيجيبت.. وتعنى كلمه "جيب" الإله بتاح.
> متى بدأ القدماء المصريون حياتهم على النهر؟
فى 24 يونيو 2015، نشرت المجلة الأمريكية "الأمريكان جورنال" فصلا بعنوان "المصريون فينا جميعا"، توصلوا من خلاله أن هناك 55 ألف سنة مضت على عمر الإنسان على نهر النيل، وتم هذا الاكتشاف من خلال إخضاع تلك الفترة لعنصر الكربون 14، الذى يحدد بدقة عمر الأشياء على الأرض.
> ما الدليل على وجود بشر على نهر النيل وكيف عرف ذلك؟
وجد الباحثون بقايا ومعالم للبشر عاشت قبل 500 ألف سنة، وأنهم ذهبوا إلى إفريقيا وأوروبا، وعندما بحثنا عن وجود مصريين تحديداً، وجدنا الأدوات الخاصة بهم، علمنا ذلك من خلال جرف النيل الشديد والطمى الذى أخفى هذه الأدوات، وهذا ما نعمل عليه أثناء تسجيل أى فترة من خلال استخدام الأدوات مثل الحجارة والزلط، ووجدنا بالفعل زلطا كان يختار منها وينحت حرفها ليستخدمها كآلة حادة، وهذه الأدوات هى التى استمرت وعرفنا منها المدة الزمنية التى كانوا يعيشون فيها.
حيث توافرت مقومات الحياة البشرية فى منطقة شمال إفريقيا خلال العصر الحجرى القديم، واكتشفوا ذلك نتيجة آثار لنمو الأعشاب والأشجار واستيطان قطعان الغزلان والأبقار والأغنام، فاعتمد الإنسان على صيدها باستخدام آلات بدائية، كما عُثر على كثير منها فى صحراء مصر الشرقية والغربية. فقد دفعت التغيرات المناخية السكان نحو الأنهار نتيجة الجفاف وندرة الأمطار، فظهر نمط جديد من المجتمعات فى مصر، وهو شكل من أشكال الحياة البدائية، التى ربما تعود جذورها وأقدم مفاهيمها وآلهتها إلى مستهل العصر الحجرى الحديث أى منذ نحو عام 5800 قبل الميلاد. كما فطن المصريون لأهمية النيل وابتكروا طرقا للاستفادة من مياه النهر وتنظيم الرى وزراعة أكبر مساحة من أرض الوادى.
> متى بدأ النيل فى حفر مجرى له؟
النيل بدأ حفر مجراه يستمر ويتقطع أكثر من مرة، لكنه انتظم نهائيًا منذ 12 ألف سنة، وكان الفيضان يغرق البلاد بالكامل، وكانوا يعملون فى الصباح، ويذهبون للجبال فى الليل تجنبا للخطر.
كما أنه فى تلك الفترة بدأ تدوين وكتابة الحروف عام 5619، قبل الميلاد، كما أثبت "مانيتون"، بعكس ما ذكره المتحف البريطانى أنه فى 3200 قبل الميلاد بدأ التدوين، لكن البحوث الجديدة أثبتت أن "مانيتون" كان على صواب والمتحف البريطانى على خطأ، كما أثبت "أندريه بوشان" عالم المصريات الفرنسى بالكربون 14، عندما بدأ بأخذ عينات من مومياوات الدولة القديم، فوجد أنها أقدم من 2400 سنة، وبجمع الفترتين نجد أن منيتون على صواب أيضاً، والدليل الآخر قال إن الأسرة الأولى بها 9 ملوك منهم ملكة اسمها ميريت نت، والمتحف البريطانى أخطأ مرة ثانية وقال إنهم 3 ملوك.
> كيف استفاد المصرى القديم من نهر النيل فى التجارة؟ وكيف ساعد فى بناء الحضارة المصرية؟
كان نهر النيل هو وسيلة المواصلات الوحيدة، والمجرى والشريان يربط الدول ببعضها، وكلمة سوق معناها ميناء، وكان الجميع يأتى ببضاعة ويبيع السلع عن طريق المقايضة ليسهل التواصل، كما بدأوا يصنعون مراكب ويستوردون أشجار الأرز من لبنان، وكان صنع المركب فى منتهى الابتكار والعظمة، ويتم فكها وتركيبها بطريقة العاشق والمعشوق بدون مسمار واحد، كما كان يصل طولها إلى 20 متراً، وكانوا لا يعرفون الحديد فى هذا الوقت، وساعدهم ذلك فى التبادل التجارى والصناعة، كما عملوا طفرة فى الفخار بأشكال وألوان مختلفة، ودونوا عليه شكل المراكب والطقوس والحفلات، كما كانوا يرسمون علامات يصنفون بها الأشياء وأصبحت علامات تجارية لبضائعهم، فكان هذا هو شكل الكتابة بالنسبة لهم، لأن الحروف أخذت وقتا كبيرا لتجميعها، فوصلت الكلمات إلى 4500 مليون كلمة و8000 علامة ورسومات، كانت تعرف بلغة العصافير، ويقومون برسم كل صوت فى الطبيعة ليعبروا به، وكان كل شىء حرفين مثل "جد" معناها أتكلم ويرسم بجانبها شخصا واضعا يده على فمه، و"يسمع" يضع جانبها أذنا، وكلمة "أيدي" يرسم ذراعا يناول شخصًا.
وبعد أن فرغنا من حوارنا مع الدكتور وسيم السيسى، حاورنا الدكتورة سوزان راغب، طبيبة العيون، وحرم الدكتور وسيم السيسى، والمولعة بعلم الآثار، وتشارك الدكتور وسيم في هذا الولع بحضارة المصريين القدامى.
> كيف آمن المصريون بالنيل بهذا الشكل الكبير؟
آمن المصريون القدماء بالنيل، لأنه الضامن لحياتهم من مهالك القحط والضيق، واعتبروه الفيض السماوى الذى يهطل على أرضهم بالخير، كما ترنموا بأناشيده على آلاتهم الموسيقية، ورسموا به صورة حياة شكلت معنى التاريخ فى مصر، كما يمكن أن نفهمه فى الوقت الراهن، إنه تاريخ له تأثيرات وتصورات ذهنية ذات دلالات وأبعاد أبدية.
وتقول الفرنسية لالويت: "هذا التاريخ المديد الذى ننهمك فى دراسته، بكل ما أوتينا به من ولع وشغف صادقين، لن نصل أبدا إلى نهايته، إن علماء دراسات تاريخ مصر القديم أشبه بعامل بالقطعة، على المستويين الذهنى والعقلي، يجمعون يوما بعد يوم عناصر جديدة تنبثق دون توقف من وسط رمال مصر" .
> ما أشهر الزراعات فى ذلك الوقت؟
كان القمح من أهم الزراعات التى عرفها المصرى القديم، فأى حضارة لابد لها من بنية تحتية لإقامة حضارتها، فالزراعة والصناعة هما الحياة لهما ويقول الفيلسوف الألمانى "هيجل"، كانت الصناعة والزراعة هما أساس الحضارة فى مصر القديمة، كما علم النيل المصرى القديم فصول السنة وأساسيات الأخلاق وبدء التقويم الشمسى الذى يتفق مع الزراعة، وأكثر من هذا عندما سأل أمنحتب الإله أوزوريس، كيف تتقدم مصر ونقضى على ثالوث الفناء قال له: هو القضاء على الفقر والجهل والمرض، بكلمه واحدة وهى نهر النيل، فإن الماء للشرب والطمى للزراعة وأيضا الكساء من الكتان والبناء من صناعة الطوب، فإذا توافرت المياه والكساء والبناء نقضى على الفقر، وللقضاء على الجهل استخدم أوراق البردى، وكتب عليها وأستخدم البوص وحوله إلى أقلام، وكيف نقضى على الأمراض؟ قال له بالماء والنظافة وأيضاً للسباحة والرياضة، وزراعة النباتات الطبية للدواء، قال له صدقت إذا صح النيل صحت مصر، وإذا مرض النيل مرضت مصر، كما قاموا بتمليح الأسماك وحفظها خوفا من المجاعة.
> هل خريطة نهر النيل اختلفت عن الماضى؟
نعم اختلفت كثيراً، فكانت أفرع نهر النيل تصل إلى 6 أفرع فى الدلتا، والآن أصبحت فرعين فقط هما دمياط ورشيد، وكانت هناك فروع فى الروضة والجزيرة، وقام "إسماعيل باشا" تغير المسار مثلما فعل ببولاق التى كان يطلق عليها البحيرة الجميلة، لكن المجرى الرئيسى الذى يصب فى البحر المتوسط ما زال كما هو.
> كيف استخدم المصريون النهر فى حياتهم اليومية؟
عندما جاء "هيردوت" إلى مصر، وجد قيودا شديدة على النظافة، فوجد أن المرأة تغتسل مرتين فى اليوم، ووجد ذلك على رسومات المعابد، ورجال الدين كانوا يغتسلون قبل كل صلاة 3 مرات، ثم جعلوها مرة واحدة لمناصبهم الرفيعة لتجنبهم هذا العناء، وسمى ذلك بـ "البرضوا " وهو ما يعرف بالوضوء الآن، كما كان لديهم صرف صحى ومواسير نحاس يصل عمقها إلى 50 سم، وبيارات وحنفيات وبلاعات بسلسلة، وحمامات، فالنظافة وجدت فى مصر، وكانت السيدات تضع قارورة من العطر فى شعرها تفوح وتسيح بحرارة الجسم طوال النهار، ويقول "المقريزى" سلمت مصر من الحر والبرد وطاب هواؤها، وخف بردها وضعف حرها، كما كانوا يستخدمون الكحل لأنه قاتل للميكروبات، كما قال هيرودت: إن مصر من أحسن الشعوب صحة، فكيف يمرضون ودائما فى طعامهم البصل والثوم والليمون.
> كيف أبرزت فنون التجميل سحر وجاذبية المرأة المصرية القديمة؟
يقول الفرنسى فاندييه: إن الماء فى الفكر الدينى المصرى القديم "يمثل عنصرا أساسيا منه تخرج الحياة الجديدة، وإلى المحيط الأزلى تؤول الشمس وقت الشفق، لتبث فيه قوة نشطة جديدة "، وخصص المصريون القدماء عددا من الأرباب ارتبطت بنهر النيل أشهرها الإله "حابى"، الذى يمثل فيضان النيل سنويا، ومصدر الحياة الأولى عموما (بداية الخلق) ومصدر الحياة الأولى للمصرى القديم.
> ما قصة حقيقة إلقاء عروس بنهر النيل؟
هذه القصة كانت من اختراع مورخ يونانى يدعى بوطرخ فى سنة 46، قال إن نهر النيل امتنع عن الجريان لمدة 7 سنوات، ولكى يعود من جديد قام بإلقاء ابنته فى النهر، فهذه القصة لا أساس لها من الصحة، فالمصريون لا يلقون ببشر أحياء فى النيل، إنما يحتفلون بإلقاء تمثال من الجرانيت الأحمر للإله أوزوريس بمناسبة الفيضان رمزا لأن الأسطورة القديمة تقول بأن الفيضان يأتى نتيجة لدموعها.
> هل سجل المصرى القديم على جدران معابده عظمة هذا النهر؟
"فليحيا الإله الكامل، الذى فى الأمواج، إنه غذاء مصر وطعامها، إنه يسمح لكل امرئ أن يحيا، الوفرة على طريقه، والغذاء على أصابعه، وعندما يعود يفرح البشر، كل البشر"، ترنيمة دونها المصرى القديم فى نصوصه الأدبية تبرز قدر عرفانه لنهر النيل، جاعلا منه "الإله" الخالق لمصر، واهب الحياة والخُلد لها منذ القدم، فقد أدرك المصريون أهمية النيل منذ عصور موغلة فى القدم، فاجتهدوا فى ابتكار طرق تهدف إلى الاستفادة من مياه النهر، وتنظيم الري وحفر الترع لزراعة أكبر مساحة ممكنة من أرض الوادى، ولم يبالغ العالم الفرنسى جاك فاندييه فى دراسته "المجاعة فى مصر القديمة "، عندما أشار إلى أن "النيل هو الأساس الذى اعتمدت عليه الحياة المادية، والاجتماعية فى مصر" .
> كيف استفاد المصريون من الفيضان؟
لاحظ المصريون فيضان النيل، وانحساره فى أوقات مناسبة على نحو يمكن استفادة أرض مصر منها، إذ يفيض فى الصيف والأرض فى أشد الحاجة إلى الماء، يغمرها ويجدد حياتها، وينحسر فى وقت يناسب الزراعة، فتُبذر الحبوب، فهذه كانت بداية اهتداء المصريين لفكرة التقويم.
وقد وضع المصريون ما يعرف اصطلاحا بـ "التقويم النيلى"، الذى يبدأ ببداية الفيضان، عندما تصل المياه إلى منطقة إستراتيجية مهمة، ويعتقد العلماء أنها كانت منطقة تتوسط مدينتى "أونو" و"إنب حج"، كما لاحظ المصريون اقتران الحدث بظاهرة سماوية هى ظهور نجم الشعرى اليمانية.
ويقول العالم الفرنسى، نيقولا جريمال، فى دراسته "تاريخ مصر القديم" :"كانت نقطة الانطلاق لتحديد بداية العام الجديد هى قياس ارتفاع منسوب مياه الفيضان، وما يُسجل عند مستوى مدينة منف، وهى الأرض التى شهدت توحيد البلاد على ما يفترض، ويتفق تماما مع ظهور نجم الشعرى اليمانية، وفقا للتقويم اليوليانى، وتحدث هذه الظاهرة فى اليوم 19 من شهر يوليو كل عام.
> ماذا كان على مائدة طعام المصريين القدماء؟
ساعد النيل المصريين فى تكوين مجتمعات صغيرة، يتعاون أفرادها فى زراعة ما بها من أراض، وأحيانا كانوا يلجئون إلى توسيع حدودها بالاستيلاء على أراض المجتمعات المجاورة، إلى أن اندمجت هذه المجتمعات وشكلت كيانا أكبر اتحد فى عهد الملك "نعرمر (مينا) " فظهر أول شكل مترابط سياسيا واجتماعيا للأراضى المصرية بفضل النيل.
كما عرف المصريون أيضا، إلى جانب الزراعة التى اعتمدت على مياه النيل، صيد الأسماك، فابتكروا القوارب وسيلة للصيد والمواصلات، وسجلوا العديد من المشاهد المائية على جدران المقابر، التى كانت توضع بداخلها أسماك النيل لتقديمها قرابين من المتوفى فى العالم الآخر.
> كانت للنيل قدسية ورهبة كبيرة لديهم لماذا؟
برز تقديس النيل من خلال حرص المصرى على طهارة ماء النهر، من كل دنس كواجب مقدس، فقد نظر المصريون إلى النيل بعين القداسة، واستخدموا مياه النهر للتطهر، ولأداء الطقوس الدينية وغسل المتوفى.
كان الاغتسال بماء النيل ضرورة حياتية مصرية، كنوع من النظافة والتطهر البدنى والروحى، وهى عملية تحمل معنيين، فعليا ورمزيا، فى وجدان المصرى، أما الفعلى فهو يشمل نظافة الجسد والملبس والمأكل والمسكن، فضلا عن التطهر كضرورة لتأدية الطقوس الدينية، أما الرمزى فيشمل طهارة النفس روحيا من كل شائبة.
ويشير نص قديم إلى أن "من يلوث ماء النيل سوف يصيبه غضب الآلهة"، وأكد المصرى فى اعترافاته الإنكارية فى العالم الآخر، ما يفيد عدم منعه جريان الماء درءا للخير، كما ورد فى الفصل 125 من نص "الخروج إلى النهار (كتاب الموتى)" ، نقلا عن الترجمة الفرنسية للعالم بول بارجيه:"لم أمنع الماء فى موسمه، لم أقم عائقا (سدا) أمام الماء المتدفق"، وفى نص مشابه على جدران مقبرة "حرخوف"، فى أسوان عدّد صفاته أمام الإله من بينها "أنا لم ألوث ماء النهر، لم أمنع الفيضان فى موسمه، لم أقم سدا للماء الجارى، أعطيت الخبز للجوع وأعطيت الماء للعطشى" .
> هل هناك ترانيم ومدائح لنهر النيل؟
دأب الكهنة والمصريون، على ترديد أناشيد وترانيم للنيل عرفانا بقدره ونعمه على الناس، من بين هذه المدائح الدينية نص يعود إلى عصر الدولة الوسطى يقول: "المديح لك يا حابى، الذى يخرج من الأرض، ويأتى ليعيد الحياة لمصر"، وفى موضع آخر يمدح المصرى القديم النيل ويدعوه إلى الفيضان قائلا: "يا مسبب الخضرة، ليتك تأتى يا حابى، ليتك تأتى إلى مصر يا خالق القرابين، يا مسبب خضرة الضفتين لتعطى الحياة للناس والحيوانات من منتجاتك من الحقول، يا مسبب الخضرة ليتك تأتى".