ما تكبَّر أحد إلا لذلة فى نفسه يحسها ويداريها، تظهر هذه الزلة فى «زلة لسان»، أو خطأ غير مقصود، ينضح عفو الخاطر، فيكشف عما فى النفس من استصغار للذات وفقد الثقة، وهؤلاء من كان طه حسين حسين، (15 نوفمبر 1889 - 28 أكتوبر 1973)، يرى فيهم العدد لكل فكر وكل تقدم، أولئك الذين يهزلون فى مواقف الجد، وقد يكون المرء غبيا فى طبعه، لكن الغباء غباء القلب، غباء القلب الذى يدفع كبارا للتدنى لجلب الشهرة، وآفة بعضهم اليوم إرادة دوام الحضور الجسدى، وفى الوقت الذى يفعل فيه كبار ذلك، يأتى شاب مصرى يأخذ عمله على محمل الجد، ويتعامل مع الثقافة بما تستحقه من وقار، وما يستحقه هو من احترام للذات وعناية بالمستقبل، فى الوقت الذى تجرأ فيه بعض الكبار على طه حسين، كان كتاب «مقدمات طه حسين»، جمع وتعليق على قطب، تحت شعار كبير ما قدمه عميد الأدب لغيره، الصادر عن بيت الحكمة للصناعات الثقافية، يقف راية مشرقة تعطى للعميد وضعه ومقامه، وتلقى الضوء على بعض ما قدم للبشرية، وما قدم من آخرين.
موضوعات مقترحة
إذ لا يكون الكبير كبيرا إلا بين الكبار، ولا كبير بين أقزام كان طه حسين يعتنى بغيره، كما يعتنى بنفسه، يقدم لكتب غيره كما يقدم لكتب نفسه، ويقدم للسلاسل الجديدة، مثلما كان ينشئها، كما رعى العديد من المشاريع الكبرى، مثل مشروع جامعة الدول العربية الثقافى، الذى أصدر الأعمال الكاملة لشكسبير بترجمة هى من أجل وأفضل التراجم حتى الآن، ولعل مقدمة العميد لسلسلة اقرأ التى أصدرتها دار المعارف عام 1943م والتى أثبتها الكاتب الروائى والمحقق الثقافى على قطب، تظهر كرم طه حسين مع نفسه ومع الآخرين، وحرصه على المنفعة العامة، وهى المقدمة التى يقول فيها: إن الذين عنوا بهذه السلسلة ونشرها، لم يفكروا إلا فى شىء واحد، هو نشر الثقافة من حيث هى ثقافة لا يريدون إلا أن يقرأ أبناء الشعوب العربية، وأن ينتفعوا وأن تدعوهم هذه القراءة إلى الاستزادة من الثقافة والطموح إلى حياة عقلية أرقى وأخصب من الحياة العقلية التى نحياها.
بحسه الإبداعى الرهيف، وبعقله اليقظ استخدم على قطب، المنهج التاريخى، فرتب المقدمات حسب تاريخ كتابتها، لتعطى صورة عامة عن تطور ونمو عقل ومشاعر العميد، كما لم يترك على قطب المقدمات، دون أن يوضح ملابساتها، وظروف كتابتها، وهو أمر أيضا ينبئك عن جدية واحترام العمل، فلم يكتف بالجمع والترتيب، ثم وضع اسمه إلى جوار اسم لا يكاد يعرف، ولفرط شهرته، بل استحق بما عمل أن يوضع اسمه مع اسم العميد، وهى مرحلة من الجدية والصرامة يبلغها المثقف فى أخريات حياته لا فى مطلع شبابه، لكن حيوية مصر، وقدرتها على التجدد تجعل الأمل ممكنا، والتقدم على بعد خطوات، وما فعله بيت الحكمة بنشر الكتاب، وهى مسئولية ألزم نفسه بها، تعيد إلى الأذهان جدية الآباء وإخلاص الأبناء الحقيقيين للثقافة المصرية.
أكثر من سبعين مقدمة سعى وراءها على قطب، مقدما لها تقدمة طويلة، ليعطى بذلك صورة لقرن كامل من التفاعل الثقافى، خيم عليه ظل العميد طه حسين، وطبعه بطابع الجدية والتنوع، حتى أن بعض الكتاب كانوا يأخذون أجزاء من محاضراته ويضعونها مقدمات لكتبهم، ليس سعيا وراء شهرة، أو اجتلاب معرفة من معروف، بقدر ما هو دلالة على تنوع عطاء طه حسين، ذلك التنوع الذى أظهرته تلك المقدمات، وعلى رغم الطابع البحثى الذى وسم جهد على قطب، فإنه لم يجب فى مقدمته عن سؤال مهم، هو لماذا استسهل طه حسين أحيانا كتابة مقدمات لأعمال وأسماء لا ترقى لما كان يدافع عنه من الجدية والعمق، ولا أريد أن أذكر أسماء، فقد كتب مقدمات لأعمال مات أصحابها، وقد عمر بعضهم طويلا، دون أن يقدموا بعد تقديم طه حسين لهم، ما يجعلهم جديرين باقتران أسمائهم باسمه.
قرر على قطب، أن يخوض بحرا مخوفا ولم يتردد، ولو تردد من فى سنه عوتب، لكنه نجح باقتدار فى إثبات أن المبدع المصرى يعرف أن رسالته لا تقتصر على كتابة الأدب فقط شعرا أو رواية، دون أن يكون متصلا بتراث من يحبهم من كبار الكتاب المصريين، وعلى قطب روائى صدرت له الكثير من الأعمال، ونال العديد من الجوائز التى استحقها عن جدارة.
حاول على قطب، فى مقدمته الضافية للكتاب أن يظهر أهمية هذه المقدمات فى فهم العصر الأدبى والثقافى، الذى تؤطره حين قال:«نستطيع بارتياح القول: إن مقدمات طه حسين تدل على عصر من الإبداع الراقى المتنوع المعارف والأشكال، وقراءة هذه المقدمات تضيف خبرة جمالية للقارىء العام، وتفيد الباحثين المتخصصين فى معارف شتى تقدم مادة مهمة لمن يكتب فن السير ويؤرخ للحياة الأدبية العربية، كما كتب طه حسين أيضا مقالات كثيرة فى مراجعات الكتب فى الدوريات خصوصا: الرسالة، الثقافة، الكاتب، المصرى، بالإضافة إلى:«الوادى والمصور والهلال والآداب وجريدة الجمهورية، ومعظم هذه المقدمات تصلح لأن تكون مقدمات للكتب فى طبعاتها بعد ذلك».
هذه الفقرة فى المقدمة، تظهر للقارئ أهمية هذه المقدمات من ثلاث زوايا، الأولى كونها مؤشرا على الحيوية الفكرية والثقافية التى عاصرها طه حسين، والثانية تلك الخبرة الجمالية التى تضيفها للقارئ كونها جزءا من فكر ووجدان عميد الأدب العربى بغناه وتنوعه وعمقه، والثالثة أن الحيوية الفكرية والتواضع الفكرى، إن صح التعبير، جعلت العميد يكتب مراجعات للكتب، شارحا ومفسرا وعارضا للكتب مثقفين آخرين، فى الصحف والمجلات، وهو جهد يراه البعض فائضا عن عمل المفكر، لا سيما مَنْ كان فى منزلة طه حسين.
فى هذا السياق الذى حرص الروائى على قطب على إظهاره، هناك العديد من الأسئلة منها مثالا: هل هناك بعض المقدمات كتبها طه حسين بسيف الحياء، بمعنى أنها لكتب لا تستحق، والكتاب كانوا المتمسحين فى وجود العميد، ذلك أن الثلث الأخير من الكتاب حوى مقدمات نشعر معها بأن العميد يربت على كتف بعض الكتاب، غير مقتنع بإنتاجهم، ومن جهة أخرى تظهر المجاملة فى بعض تلك المقدمات، حتى أنك تشعر فيها بعدم وجود تلك الروح الحماسية التى تنضح من مقدمات طه حسين للكتب الكبرى والمهمة، أو التى يحبها وكان يعرف أصحابها معرفة شخصية مثل مقدمته - مثلا - لديوان عزيز فهمى، فلغة المقدمة تكاد تفيض حنانا:
نضر الله وجهك يا بنى! وأعظم ما كنا نعقد بك من أمل وما أفدح ما أصابنا فيك من يأس، لقد رأيناك هلالا يلوح ضوؤه فى السماء فيملأ قلوبنا رضا وغبطة وإعجابا، وما هى إلا ساعة يبتسم فيها الليل المظلم عن شخصيته كريمين، أحدهما يسعى من الشرق ليملأ الأرض والسماء، وما بينها نورا وهو الفجر، والآخر من الشمال ليندود من الحق فى موطن من مواطن الذياء عن الحق، وهو أنت، فأما الفجر فيمضى حتى يصير شمسا، وأما ما أنت فتمضى حتى تصير موتا».
أين هذه اللغة التى تفيض عذوبة ورقة وأسى، من مقدمة لديوان عبد الله القرشى مثلا، التى يقضى العميد ثلثيها فى الكلام عن شعراء الحجاز فى العصر القديم، ولولا أنه عرج فى الثلث الأخير إلى اسم القرشى، لما عرفنا أنها مقدمة لديوان حديث، حيث يلحق الشاعر بأسلافه فى حيلة فنية للهروب عن الكلام الفنى عن الديوان، وما أظن إلا أن العميد كتب بعض المقدمات خجلا أو مضطرا للمجاملة.
هذا الكتاب بالحواشى التى أحدثها الكاتب على قطب، وبالتدخلات الضرورية، يقول بوضوح أننا أمام عقل حصيف سيضيف فن الرواية والسرد، كما سيضيف إلى العمل الثقافى والأدبى بشكل عام، تحية للعميد ولبيت الحكمة ولعلى قطب.