كليات الآداب ما لها وما عليها.. تصورات ورؤى

22-5-2024 | 18:02

في حقيقة الأمر لم أكن متصورًا أنني ذات يوم سأقف في هذا الموقف مدافعًا عن كليات الآداب، ضد أي هجوم عليها؛ لأنني كنت على يقين وقناعة شخصية أن الجميع يعلم فضل كليات الآداب ودورها الرائد في حفظ تراثنا الحضاري، لكن لا يمكن بحال أن نقف مكتوفي الأيدي ضد هذه الهجمات الشرسة التي تشن عليها، من أنها كليات غير ذي فائدة، كليات مستهلكة فقط غير منتجة، يتخرج منها الآلاف كل عام ولا جدوى منهم ولا فائدة ولا تستفيد منهم سوق العمل، سوق العمل تحتاج إلى خريج يعلم لغة العصر والكمبيوتر والبرمجيات والاقتصاد، ولا مندوحة عن كل ذلك، لكن أين موقع كليات الآداب من كل ذلك، لماذا توضع الآن كلية الآداب بين علامتي تنصيص "كلية الآداب"، أخشى أن يأتي يوم ونخجل مثلا أن نذكر أننا معنا دكتوراه في الآداب تخصص كذا أو كذا. أو حاصلون على الأستاذية في الآداب في فروعها المختلفة، وكأننا عاملون عملة، أو كأنها سبة.

لكن ومن باب الأمانة العلمية في الطرح للإشكالية وكيفية معالجتها 

سنبدأ بما لها من مآثر، ثم بعد ذلك نتحدث عن بعض المثالب من أجل المعالجة.

إذا أردت أن تسأل عن تاريخ الأمم وحفظها، فسأل كليات الآداب، إذا أردت أن تسأل عن رسم خرائط الأمم وتحديد جغرافيتها ومساحاتها وسهولها وهضابها وجروفها والأزمنة الجغرافية وهندسة مساحاتها، فسأل كليات الآداب.

إذا أردت أن تسأل عن الترجمة عن جميع اللغات منها وإليها، فسأل كليات الآداب، إذا أردت التعرف على حضارات الشعوب الأخرى، فكيف يتسنى لنا إلا من خلال أقسام اللغات بكليات الآداب.

إذا أردت أن تسأل عن القواميس ومعاجم اللغة العربية والمحققات، وقواعد اللغة العربية فلتسأل أقسام اللغة العربية في كليات الآداب، الأمناء على اللغة وحراسها من اندراس رسمها ومحو اسمها وهويتها فلتسأل أقسام اللغة العربية وآدابها.

إذا أردت أن تسأل عن الدراسات الإسلامية، فسأل أقسام اللغة العربية.

إذا أردت أن تسأل عن التحليل النفسي والغوص في أعماق النفس الإنسانية لضبط السلوك العام، فسأل أقسام علم النفس في كليات الآداب.

إذا أردت أن تتعرف على أنثربولوجيات الشعوب وقبائل الأمم من خلال طبوغرافيا مبدعة، فسأل أقسام علم الاجتماع بشعبه المختلفة؛ سواء السكان أو الأنثروبولوجيا أو علم الاجتماع العام وأقسامه؛ سواء المدني أو الريفي، فسأل أقسام علم الاجتماع في كليات الآداب، إذا أردت أن تتعرف على إميل دوركايم، وأوجست كونت وابن بطوطة، وابن خلدون ورحلاتهم ودراساتهم حول الأمم والشعوب وعلم العمران، فسأل أقسام علم الاجتماع في كليات الآداب.

إذا أردت أن تتعرف على روح الفكر وديناميكيته، وكيف نبحث وننقد ونقارن  ونناقش، وكيف نبني شخصية مفكرة، فسأل أقسام الفلسفة في كليات الآداب في كل فروعها؛ سواء الفلسفة الإسلامية، السياسية، اليونانية، الحديثة والمعاصرة، فلسفة القيم، الحضارة، التاريخ، الأخلاق، دراسة الفكرين الشرقي والمصري، فسأل أقسام الفلسفة في كليات الآداب.

يا سادة علوم الفلسفة متغلغلة في كل أقسام كليات الآداب، وخير شاهد على ذلك الدراسات البينية والتبادل العلمي والثقافي والمعرفي الذي يحدث بين أقسام كليات الآداب؛ سواء كان بالندوات أو بالإشراف العلمي المشترك على الرسائل العلمية وخلافه.

نأتي إلى حاجة سوق العمل لأقسام كليات الآداب، من الذي يدرس في المدارس بجميع أنواعها، خريج كليات الآداب.

إذا كان الأمر يتطلب تنمية قدرات، فلا يكون ذلك عن طريق وأد كليات الآداب وتصفيتها، ولكن عن طريق البحث عن آليات جديدة تؤهل هذا الخريج لكي يكون متوائمًا مع روح العصر بتقنياته ومهاراته ومسايرته لروح التقدم العلمي من ميتافيرس وذكاء اصطناعي وتعليم عن بعد أون لاين وغير ذلك من التقنيات الحديثة.

فضلا عن البحث عن الموهوبين في هذه الكليات في كافة أقسامها.

فمن أين تخرج على سبيل المثال لا الحصر الأستاذة أنيس منصور ونجيب محفوظ وسهير القلماوي وزكي نجيب محمود؟ من كليات الآداب ومعظمهم من قسم الفلسفة، وغيرهم ألوف ممن ذاع صيتهم في الصحافة والأدب وملأت كتاباتهم الدنيا بأسرها فكانوا روادًا للتنوير، أين العقاد من ذلك، وأين مصطفى عبدالرازق، وأحمد لطفي السيد، وغيرهم وغيرهم، ألم يكن لهؤلاء باع طويل في حمل راية التنوير والفهم والاستبصار حتى بعد مماتهم أليست كتبهم باقية خالدة ينهل منها الجميع.

ألسنا في حاجة إلى تراجمة مهرة يقومون بالترجمة من العربية وإليها، بغيتهم الوصول بمؤلفات مفكرينا إلى العالمية، أليس هذا عمل محمود الغرض منه الحفاظ على هويتنا الثقافية بما يمثل مدًا حضاريًا وتبادل ثقافات؛ من خلال قراءة الآخر، فكيف أقرأ الآخر وأنا أجهله، من الذي يفك طلسمات ورموز هذه اللغات إلا المترجمون الذين تخرجوا في أقسام اللغات، وإن كنت أرى أن ذلك سيتطلب جهدًا كبيرًا في الوصول بالمترجم إلى غايته، الترجمة الواعية المنضبطة.

من الذي يعمل في الإرشاد السياحي أليس خريج قسم الآثار الذي يتعلم اللغات القديمة، ألسنا في حاجة إلى هذا الخريج والاستفادة منه بدلا من تركه يعمل في غير تخصصه.

إنه من الإنصاف والموضوعية أن نقول ما لنا وما علينا، قلنا بعض ما لنا وتحدثنا عن الإيجابيات، يبقى أن نتحدث عن السلبيات، فالضرورة والمنطق يحتمان علينا ذلك.

نقول سلبياتنا من أجل تصحيحها أو الاجتهاد في تطوير أنفسنا.

أولتها، ضرورة التخلص من الكلاسيكية التقليدية، لا أقول التخلص من أصالتنا، ولكن ضرورة ملحة أن نوظف تراثنا وأقسامنا في كليات الآداب للمعاصرة؛ بمعنى لا نعبث بتراثنا الحضاري، لكن مقصدي لا نقف أمامه وهو موضوع على الأرفف غير مستفيدين منه، جل همنا القول نحن أصحاب أقسام عتيقة نعم استفد من هذه العتاقة، ما الذي سيستفيده الدارس الجديد من مشاهدة صورة لعميد الأدب العربي طه حسين، دون شرح لزومياته على أبي العلاء المعري.

المقصد الصور كثيرة الأهم من الصور، الغوص في بطون أمهات كتب هؤلاء لإثراء حياتنا الفكرية، من الذي سيفعل ذلك كليات الآداب، أو ما يسمونها الكليات النظرية، فالكليات العملية لديها مهامها التي تثري حياتنا المادية، فنحن في حاجة لعلوم الطب والهندسة والأحياء والفيزياء وعلوم الزراعة.

أما غذاء الروح والوجدان ففي علومنا النظرية، ويا حبذا لو اجتمعت الروح مع الجسد كيف يكون ذلك، هذا ينقلنا إلى الآلية الثانية.

ثانيتها، التحديث والتطوير المستمر للوائح الداخلية لكليات الآداب واستحداث مقررات اضرب في اتجاهين، الأول تنمية روح النقد عند الطلاب بما يجعله على وعي ودراية بكل ما يحدث حوله من متغيرات سواء سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية فلا يقف منها موقف المتفرج فقط، بل يمارس دوره حتى إذا ما تخرج وعمل معلمًا ينقل رؤيته الناقدة لتلاميذه، بما يثري روح النقد لديهم.

أما الاتجاه الآخر، فاستحداث مقررات تتواءم وتتناسب مع سوق العمل، سواء في البرمجيات وهذا منوط بتنفيذه أقسام المكتبات بكليات الآداب عن طريق استخدام البرمجيات وعلوم الرقمنة في التصنيفات وفهرسة المكتبات والأرشفة وغيرها، وهذا يفيد واقعنا المعاصر بما يضمن توفيرًا للوقت والجهد للدارسين والباحثين، ليس في مكتبات الجامعات والمكتبات العامة؛ بل حتى في مكتبات المتاحف والمستشفيات وكل مكان به مكتبة.

ثالثتها، الانتقال بكليات الآداب من كليات مستهلكة إلى كليات منتجة، كيف السبيل إلى ذلك، تطوير مراكز الأغراض المتخصصة، فبدلاً من قصرها على لغتين أو ثلاث، يعمم على كل اللغات عن طريق عقد دورات شهرية وإعطاء شهاداتهم معتمدة، وهذا سيعود بالفائدة على المتعلم والمعلم والإدارة التي يتبعها والدولة أيضًا.

كذلك محاولة السعي الحثيث لإدخال برامج جديدة في الكليات كبرامج الجيوماتكس في قسم الجغرافيا، وبرامج الترجمة الفورية، لا أقول في اللغة الإنجليزية فقط أو الفرنسية؛ بل في كل اللغات.

أيضًا إعطاء دبلومات في الإرشاد النفسي والتخاطب والتحليل النفسي من أقسام علم النفس وإعطاء الخريج شهادة تؤهله للعمل في هذا المجال.

كذلك تفعيل دور أقسام الإعلام بكليات الآداب، بصورة أكبر، وهذا ما يحدث بالفعل ولكن نريد المزيد، بل ومخاطبة هذه الأقسام للجهات الإعلامية المختلفة بضرورة الالتفات لهذا الخريج.

أيضًا تشجيع الأقسام العلمية على استحداث برامج جديدة كبرامج النظم السياسية ودبلومات في العلاقات الدولية.

وكل ذلك سيؤهل خريجًا يستفيد منه المجتمع، فيصبح عضوًا فعالًا مرغوبًا فيه، وبالتالي سيرغب الناس في الالتحاق بكليات الآداب.

ويبقى السؤال قائمًا: 

ما الذي جعل كليات الآداب تتعرض لهذه الهجمات الشرسة؟!

نظام القبول فيها.. كلية الآداب تحميلها بأعداد تفوق طاقتها، وأجبرت على فتح أبوابها لطلاب حصلوا على أقل المجاميع بشرعية نظام الانتساب والتعليم المفتوح، فتحولت من منارة للتنوير لسد خانة، وكلية تحاول أن ترضي تطلعات طلاب لم يحققوا تطلعاتهم، ولم يحصلوا على فرص أفضل.

وللأسف صب نظام الانتساب في أقسام تقوم على إعمال الفكر مثل قسم الفلسفة، فخسر الشكل والمضمون.

إذا أردنا حقًا الحفاظ على هويتنا الثقافية، فلابد من النهوض بكليات الآداب، الحارس الأمين لتراثنا بدلا من وأدها.

أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة