ذروة «المسألة اليهودية»، كانت في منتصف القرن التاسع عشر، بدأها برونو باور، ومرت إلى موشى هيس، وكارل ماركس، وانتهت إلى ثيودور هيرتزل، وأفضت إلى إقامة دولة يهودية.
الأفكار تلد المآسي أحيانًا!
كانوا جميعًا من المخزن الألماني، وهو مخزن الثقافة العالمية، والفلسفة التي بلا ضفاف، والتأثير الذي طار إلى أربعة أركان الأرض، وهو تأثير يحفر عميقًا في الأرض العربية فلسطين.
موشى هيس بدأ اشتراكيًا إنسانيًا، وانتهى قوميًا يهوديًا، وكان النبتة الأولى للفكرة «الصهيونية»، وكانت الأمم المتحدة قد اعتبرتها حركة عنصرية عام 1975، قبل أن تتراجع عام 1992 وتنسف هذا الاعتبار.
جوهر الفكرة التي اختطفت العالم الأوروبي، جعلته يفتش عن حل للمعضلة، واستخدامها في المستعمرات البعيدة، وكان هيس، الأب الروحى للفكرة، يدعم فرنسا، المترامية آنذاك، لتسيطر على خطوط الملاحة، وخطوط السكك الحديدية، والممرات البحرية، من قلب الشرق الأوسط إلى قلب آسيا، وهي الفكرة نفسها التي يطرحها الرئيس الأمريكي جو بايدن، عن الممر الذي يربط الهند بأوروبا عبر الأراضي العربية!
ماكر هذا التاريخ!
لا شيء تغير في الأفكار، كانت ألمانيا معضلة أوروبية، وفي قلبها ولدت معضلة المسألة اليهودية، ونفس ألمانيا خرج منها علماء الفيزياء الأوائل، واستطاعوا تفتيت الذرة، واختراع القنابل النووية، وقد استفادت أمريكا والاتحاد السوفيتي، شريكا الحرب العالمية الثانية، من العقول الألمانية في اكتشاف أخطر سلاح منذ بداية الخليقة، وكان أوبنهايمر، أول مخترع للقنبلة النووية، قال: لقد جلبت الموت الجماعي إلى الأرض!
جاءت المسألة اليهودية من بعيد، عبرت الشواطئ العربية، واستقرت في الأراضي العربية، وشجعتها أوروبا للتخلص من الصداع الثنائي في الثقافة والدين، والاستفادة منها كمركز متقدم لخدمة الاستعمار، وتزخر الوثائق والسجلات التاريخية بهذه الاعترافات دون مواربة.
كان موشى هيس يرى أنه من “قومية نقية مختارة” متفوقة عن بقية البشر.
كان يؤمن في شبابه المبكر بوجود أعراق مختلفة، لكنه تحول إلى الإيمان بعرق واحد، يتميز عن جميع الأعراق، ورأى أنه يمكن أن تستفيد منه أوروبا في مستعمراتها الشاسعة لتمدين الأقوام المتخلفين!
على مدى الأربعين عامًا الماضية، وعبر الانخراط في القراءة المتمعنة في هذه المسألة، وعبر النقاش مع كتاب وصحفيين ومثقفين من مختلف الميول، سمعت مرة من أحدهم أن وجود اليهود في فلسطين، وفي قلب المنطقة العربية عمل على تطويرها وتقدمها، وأدخلها في قلب الحداثة الغربية!
كان ذلك ما آمن به هيس، وكان يتمنى أن تقوم فرنسا بالدور الكبير في المسألة، فقد كانت قوة الاستعمار المتنامي آنذاك، قبل أن تتحول الفكرة على أيدي تلاميذه إلى الولايات المتحدة الحالية.
استدعى هيس روما المبهرة من التاريخ، وصورها على هيئة أورشليم، قادت روما المتحدة العالم الأوروبي القديم إلى حضارة متحدة، صارت مثالًا فريدًا، وكان هيس يزعم أن أورشليم، ستصبح المنارة الرومانية الحضارية في فلسطين، وتتوسع رويدًا رويدًا، وتصبح مركزًا متقدمًا للحضارة الأوروبية، وتنتهي المسألة اليهودية التي عذبت أوروبا على مدى ألف عام.
يؤمن هيس، ويؤمن كل الذين اعتنقوا نظرية التفوق العرقي، بأن فلسطين، وما يجاورها من بلاد مجرد أرض لـ”الدولة اليهودية”، وإذا جاءت لها الفرصة أن تتوسع، فما عليها سوى انتهاز الفرصة.
كانت وجهة نظره العميقة تقوم على أن الشعوب القائمة في تلك المنطقة لا تحظى بأي قدر من التمدين أو التحضر، هل سمعتم يوآف جالانت، وزير الدفاع الإسرائيلى، وهو يصف الشعب الفلسطينى بالحيوانات البشرية؟ وهل سمعتم تصريح السيناتور الأمريكي الجمهوري ليندسي جراهام، وهو يقول: يجب أن نعطي إسرائيل القنابل النووية لتقصف غزة؟
ما العمل كما قال لينين ذات مرة؟
العمل هو أن المسألة الفلسطينية تصبح حجر الزاوية في الضمير العالمي، وأن يتحول هيس وأمثاله إلى المتحف، فقد أغرقت كلماته العالم في بحار من الدماء.