بالتزامن مع الذكرى السادسة والسبعين للنكبة كانت الجامعة العربية على موعد جديد مع الوقوف صفًا واحدًا حيال قضية الأمة العربية الأبرز، القضية الفلسطينية، على الرغم من جميع التحديات الأخرى والأزمات التي تحيط بالمنطقة، فمع ازدياد سعار القتل والتدمير والتهجير القسري من قبل الاحتلال، زادت وتيرة الضغوط عليه وعلى تابعه "قفة"، وتابعه هنا الإدارة الأمريكية، التي كشفت تمامًا وعرت وجهها القبيح في استمرار دعم الاحتلال وفاشيته وحربه الممنهجة والإبادة الجماعية في حق الشعب الفلسطيني، كأنهم يسابقون الزمن لتنفيذ مخطط الشيطان في الاستيلاء على فلسطين ومقدساتها ومحو تاريخها لصالح وعد بلفور المشئوم، وخصوصًا بعد التطورات التي جرت على أرض الواقع السياسي الدولي ولم تكن في توق أو حسبان تل أبيب وواشنطن الحليفتين،
حيث انتفاض الرأي العام العالمي وفي القلب منه شباب الجامعات الأمريكية والأوروبية، وحيث إقدام دول غربية على الاعتراف بدولة فلسطين المستقلة، وحيث انضمام دول ذات ثقل لقضية جنوب إفريقيا المرفوعة ضد الاحتلال بمحكمة العدل الدولية، وأبرزها مصر، وحيث الضغط المتواصل على الكيان المحتل للسماح بدخول المساعدات والغذاء للشعب الفلسطيني، وتخفيف الأزمة الإنسانية المدمرة والمتفاقمة في غزة، داعين إلى فتح كل المعابر الحدودية أمام المساعدات بما في ذلك معبر رفح، وهو ما طالبت به مؤخرًا ثلاث عشرة دولة من بينها مجموعة السبع باستثناء الولايات المتحدة، في خطاب موجه ليسرائيل كاتس وزير خارجية الاحتلال.
ويأتي مشهد الأمة في قمة جامعة الدول العربية بالمنامة مختلفًا وشديد الدلالة ومواكبًا للتحركات الدولية والعالمية، لكنه يمثل المنبع؛ حيث الارتباط بالقضية الفلسطينية قلبًا وقالبًا، وتبرز مصر كالمعتاد في الصورة كأول المعنيين بالأمر واقفة على أرضٍ صلبة، برغم جميع الضغوط المبذولة لتنحيتها عن الحدث وهي في القلب منه، وقد ظن الاحتلال أن سياسة الصبر تعني مزيدًا من التوغل وصولا إلى رفح وغلق المعابر، ليفاجأ العالم كله بضربة جديدة ومؤثرة بانضمام الدولة المصرية إلى جنوب إفريقيا لدعم الدعوى المرفوعة ضد الكيان المحتل بالمحكمة.
وفي خطوة مهمة وفارقة كدولة عربية ودولة جوار ورائدة إفريقيا، وقد سبقها العديد من الإجراءات والتفاهمات باتباع المنهج السلمي والقانوني والوساطة عبر جهود ممتدة مع جميع الأطراف الدولية والمعنية لوقف الحرب وإحقاق الحقوق، ولأن العالم أدرك تمامًا أن الاحتلال وداعميه يتجهون بآلاتهم العسكرية المدمرة نحو الهاوية في تهديد صريح للمنطقة والعالم أجمع، فقد انكشفت هذه الوسيلة وباتت دافعة لأصحابها إلى هاوية المساءلة والمحاكمات، ومن هنا جاءت كلمة الرئيس المكثفة وخطابه في قمة المنامة بمثابة رصاصة الحق في رأس قوى الشر، من الذين واجههم بوهمهم وخطأهم الكبير في الاعتقاد بأن سياسة حافة الهاوية يمكن أن تُجدي نفعًا أو تحقق مكاسب، ووضع مرآة الحقيقة أمام أعين الجميع إما مسار السلام والاستقرار والأمل، أو مسار الفوضى والدمار الذي يدفع إليه التصعيد العسكري المتواصل في قطاع غزة.
ورغم كل المحاولات لتنحية وتجنيب مصر هذه المواجهة خشية أن تفقد إسرائيل وأمريكا ومن معهم الكثير من الفرص والعلاقات في الشرق الأوسط، وخشية تأثر المصالح، لكن الموقف المصري لا يزال راسخًا وواضحًا.
ويستكمل بشجاعة دوره الريادي في مواجهة الطغيان الذي بات مشهودًا ومعلومًا للعالم أجمع، والذي أشار إليه الرئيس حين أكد أن "التاريخ سيتوقف طويلاً أمام تلك الحرب ليسجل مأساة كبرى عنوانها الإمعان في القتل والانتقام وحصار شعب كامل وتجويعه وترويعه وتشريد أبنائه والسعي لتهجيرهم قسريًا واستيطان أراضيهم، وسط عجز مؤسف من المجتمع الدولي بقواه الفاعلة ومؤسساته الأممية".
محاولات فاشلة من قبل الاحتلال للتنصل من جرائمه، بل والصفاقة في اتهام مصر بتعطيل وصول المساعدات، على الرغم من توغله في رفح بالمدفعيات والصواريخ وغلق المعبر، بل والتصريح بعدم السماح بدخول أي غذاء أو مساعدات، وكذلك محاولة توصيف الإبادة على أنها مجرد مأساة، وتزامن ذلك مع استمرار توجيه السلاح في غزة إلى صدور المدنيين العُزل، الأمر الذي يشير إلى مماطلات جديدة لتنفيذ مخطط التهجير، والذي يبدو أن التخطيط الجديد له بعد اليأس من الموقف المصري، سيكون عبر المنصة البحرية والميناء العائم الذي أعلن البنتاجون أن لتسريع وصول المساعدات إلى غزة، بينما مجريات الأحداث ومنع المساعدات أمام أعين واشنطن يشي باستخدام آخر لهذا الميناء وإن كان الدفع بمن بقي من فلسطينيين إلى أوروبا وأمريكا، وبهذا يزول صدى القضية الفلسطينية المؤرقة للاحتلال وداعميه، وتختفي رويدا مطالبات محاكمة المنخرطين في تلك الحرب بشكل مباشر أو بالدعم المادي وبالسلاح.
لذا فقد كانت كلمات الرئيس واعية ومكثفة وكاشفة وقوية حين قال "إن مصر ستظل على موقفها الثابت.. فعلًا وقولًا.. برفض تصفية القضية الفلسطينية.. ورفض تهجير الفلسطينيين أو نزوحهم قسريًا.. أو من خلال خلق الظروف.. التي تجعل الحياة في قطاع غزة مستحيلة.. بهدف إخلاء أرض فلسطين من شعبها".