حالة من التفاؤل تسود بين أوساط المستثمرين في البورصات العالمية خلال الأشهر الأخيرة، يصاحبها شعور بالثقة في أن الحرب على التضخم توشك على النهاية، وأن الفترة القادمة ربما تشهد تيسير السياسات النقدية للبنوك المركزية الكبرى.
وسجلت بورصات الأوراق المالية حول العالم ارتفاعات كبيرة هذا العام، ووصلت مؤشرات 14 من بين أكبر 20 بورصة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق.
وخلال الجلسات الخمس الماضية، وصلت مؤشرات البورصات في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا والبرازيل والهند واليابان وأستراليا إلى قيمتها أو تتحرك بالقرب منها.
وتراجعت فروق العائد على سندات الشركات والمؤسسات السيادية، كما حافظت العملات والتدفقات الرأسمالية في الأسواق الصاعدة الرئيسية على صلابتها، بينما استعاد عدد من الأسواق الواعدة قدرتها على الوصول إلى أسواق التمويل الدولية.
التوترات الجيوسياسية
غير أن نبرة التفاؤل بين أوساط المستثمرين تبدو مفرطة، وربما تشهد الأسواق رياحًا غير مواتية في الفترة القليلة القادمة، مع استمرار التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط واتساع الحرب الروسية - الأوكرانية، وتفاقم الضعف في هيكل الدين بسبب مستويات الاقتراض الضخمة في القطاعين العام والخاص عبر بلدان عدة، رغم ارتفاع أسعار الفائدة حتى الآن واستبعاد تسارع وتيرة النمو الاقتصادي.
تشير الإحصائيات الأخيرة إلى أن مستويات التضخم لا تزال عصية على الخفض في بعض الدول، وربما استمرار التضخم الأساسي في عدد من القطاعات، بل تجاوز التضخم الجوهري تنبؤات المحللين لأشهر متتالية.
فبعد تراجع دراماتيكي في مختلف أنحاء العالم، تباعدت معدلات التضخم مؤخرًا عن أهدافها في بعض الاقتصادات المتقدمة والصاعدة على السواء، إذ تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى تسارع التضخم الأساسي في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري مقارنة بالأشهر الثلاثة السابقة عليها.
وفي الاقتصادات المتقدمة تحديدًا، ارتفعت مجددًا توقعات التضخم للعام أو العامين المقبلين، مقاسة بالفرق بين القيمة الاسمية والقيمة المربوطة بالتضخم لعوائد السندات الحكومية.
السلع الأولية
وما يزكي موجات التضخم العاتية، اتجاه أسعار السلع الأولية العالمية إلى الارتفاع نتيجة لعوامل عدة، بعد أن شهدت تراجعًا حادًا، أسهم في تراجع التضخم العام خلال السنة الماضية بصورة كبيرة، وهو ما يجعل من الصعب على البنوك المركزية خفض أسعار الفائدة سريعًا.
يبدو أن موجة الانخفاض في أسعار السلع الأولية خلال العامين الماضيين، وهي تمثل أحد الأسباب الرئيسية لتراجع التضخم، وصلت إلى خط النهاية بشكل أساسي، وهو ما يعني أن أسعار الفائدة تظل في مستوياتها الراهنة.
صدمة في قطاع الطاقة
وخلص تقرير للبنك الدولي إلى أن اندلاع صراع كبير في الشرق الأوسط يمكن أن يُحدث صدمة كبيرة في قطاع الطاقة.
خلال الشهر الماضي على سبيل المثال، تم تداول خام برنت القياسي فوق 90 دولارًا للبرميل، وهو يزيد بنحو 35 دولارًا للبرميل في المتوسط على سعره السائد خلال السنوات 2015-2019.
وتشير توقعات البنك أيضًا إلى أن الاضطرابات الحادة بالمنطقة تدفع بأسعار النفط فوق 100 دولار للبرميل، ما يرفع التضخم العالمي خلال العام الجاري بنحو نقطة مئوية واحدة.
كما يؤدي تصاعد الصراع في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والمواد الغذائية والغاز الطبيعي، إذ إن المنطقة يمر بها خمس حجم التجارة العالمية للغاز المسال عبر مضيق هرمز.
من جهة أخرى، أدى تسريع وتيرة الاستثمار في التكنولوجيا الخضراء إلى تزايد أسعار المعادن الرئيسية كالنحاس إلى أعلى مستوى لها في عامين، ومن المرجح أن ترتفع أسعار الألومنيوم 2% في عام 2024.
والنحاس والألومنيوم من المكونات الأساسية المستخدمة في شبكات الكهرباء وصناعة السيارات الكهربائية والألواح الشمسية وغيرها من البنية التحتية للطاقة المتجددة.
سيناريو مغاير
يبدو أن المستثمرين على ثقة في أن البنوك المركزية المعتمدة على البيانات تعمل على تيسير سياساتها النقدية بعد أن يبدأ التضخم في التراجع مجددًا. أما إذا ظل التضخم مرتفعًا، فقد تتهاوى تلك الآمال العريضة، ما تنشأ عنه موجة بيع تشمل جميع الأصول، بداية من السندات والأسهم وحتى الأصول المشفرة، ولا سيما من يعتمدون منهم على الرفع المالي. ومع ارتفاع عوائد السندات، يواجه المقترضون حول العالم صعوبة أكبر في خدمة ديونهم.
توخي الحذر
إن تعطل وتيرة التضخم يشكل عنصر مفاجأة للمستثمرين الذين أصبحوا أكثر اقتناعًا بأن النصر تحقق بالفعل في معركة التضخم وأن أسعار الفائدة ستعاود الانخفاض مستقبلا. وفي الاقتصادات التي لا تزال تعاني من استمرار التضخم وتجاوزه لأهدافه، ينبغي ألا تسارع البنوك المركزية إلى التيسير قبل الأوان كي لا تضطر إلى الرجوع عن قرارها لاحقًا. وينبغي عليها أيضًا التصدي لتوقعات المستثمرين مفرطة التفاؤل حيال تيسير السياسة النقدية، والتي أفضت إلى موجات صعود المؤشرات في البورصات الدولية.
لذا يجب أن تتوخى السلطات النقدية الحذر إزاء الآثار التضخمية لارتفاع أسعار السلع الأولية، في خضم التوترات الجيوسياسية المتزايدة.