هذه هي المرة الأولى التي أقدم فيها (وأنا في شباب السبعين!) على السير في نفق عسكري حصين، تحت سطح الأرض، في منطقة حدودية بين الكوريتين، توصف بأنها الأخطر في العالم، باعتبارها مليئة بالألغام الأرضية ومحاطة بأسوار كهربائية وأسلاك شائكة، بالإضافة إلى مليوني جندي أيديهم على الزناد على مدار الساعة.
نفق الموت الذي زرته منذ أقل من شهر، وأكتب عنه حصريًا لـ بوابة "الأهرام" جرى اكتشافه في عام 1978، بطول 1.5 كيلو متر، وبعمق 74 مترًا، وبعرض -وارتفاع- مترين، وتزعم سول بأن الشطر الكوري الشمالي حفره لغزو الجنوب.
شغف المهنة الذي طاردني طوال أيام رحلتي الأخيرة لجمهورية كوريا، برؤية قرية الهدنة، بان مون جوم، عند خط العرض 38، والجلوس -ثانية- على مقعد بمكتب مقسم بين الكوريتين، أقول إن الشغف تبخر للأسف بفعل فاعل، ورب ضارة نافعة.
منذ عقدين وتحديدًا في فبراير عام 2004، زرت قرية بان مون جوم، تلك القرية الكورية الحزينة، التي تقع على بعد 60 كيلو مترًا شمال سول، وتعد مثالًا صارخًا للانقسام، وللمجابهة العسكرية والأيديولوجية، وللآلام والمعاناة لملايين الكوريين.
لأنني كنت موفدًا من الأهرام، فقد كتبت 7 تحقيقات صحفية، جرى نشرها، وقتها، بعنوان "خريطة طريق لعبور الأسلاك الشائكة بين الكوريتين"، ولم يخطر على البال -أبدًا- أن شبه الجزيرة الكورية ستظل -حتى تاريخه- في حالة حرب، ومقسمة.
في ذلك الوقت، كانت تعقد "محادثات بكين السداسية" للأطراف المعنية بالمشكلة الكورية، وضمت إلى جانب الكوريتين: الصين وروسيا واليابان والولايات المتحدة- أقول كانت، قد دخلت مرحلة جادة من المناقشات حول المسائل الأساسية للتوتر بشبه الجزيرة، على أساس الحوار والمساواة وروح الاحترام المتبادل والتعايش السلمي.
هذه الأجواء التفاؤلية -نسبيًا- والثقة السائدة، وقتها في سول وغيرها من العواصم المعنية، بحتمية التوصل إلى حل سلمي للحرب مع بيونج يانج من خلال الحوار، كان يقابلها حالة مرعبة من التوتر والقلق، تتسرب إلى نفوس زائري المنطقة الأمنية الحدودية المشتركة بقرية بان مون جوم، التي يبلغ محيطها نحو كيلو متر مربع واحد، ويحتشد حول أسلاكها الشائكة حوالي مليوني جندي، من الشمال والجنوب، بكامل عدتهم وعتادهم، بانتظار الأوامر لإطلاق النيران في أية لحظة.
بتاريخ 9 مارس 2004، كتبت مشاهداتي من قرية بان مون جوم في الأهرام، نصًا: "حالة الخوف التي سيطرت على الزميلة المرافقة من وكالة الاستعلامات الحكومية الكورية الجنوبية، كيم جونج أو، وكذلك على المترجمين المرافقين، تشو سونج هون و صوه مون يونج، كلما تحرك جندي حرس الحدود من الشطر الشمالي، ويقابله جندي كوري جنوبي، ويده على الزناد، وفي أقصى درجات اليقظة والاستعداد لإطلاق النار، من مسافة قصيرة لا تتجاوز عدة أمتار، بينما يراقب الموقف -عن كثب- جنديان أمريكيان من مشاة البحرية هما: نيلسون وبراكستون".
تدور عجلة الزمن، ويمر عقدان -بالتمام والكمال- على تلك المشاهدات المثيرة بقرية بان مون جوم، ويتسبب جندي أمريكي، يدعى ترافيسكينج، في إغلاق قرية الهدنة أمام الزائرين، بسبب فراره المريب -بإرادته وبدون تصريح من إدارة خط ترسيم الحدود العسكري- وتسليم نفسه لعناصر من قوات الجيش الشعبي الشمالي.
كما ذكرت في بداية المقال، رب ضارة نافعة، فقد تسبب هذا الحادث في تنظيم زيارة لمنطقة عسكرية حدودية بديلة، أكثر إثارة للعاب الصحفيين مثلي، باعتبارها من أكثر المناطق تحصينًا في العالم، ولكونها مليئة بالألغام الأرضية، ومحاطة بأسوار كهربائية وأسلاك شائكة وكاميرات للمراقبة، بالإضافة إلى الآلاف من حرس الحدود المسلحين يشاهدون في حالة تأهب قصوى، وأيديهم على الزناد على مدار الساعة.
في العموم، تبدو المنطقة الحدودية الكورية منزوعة السلاح، المعروفة باسم DMZ، كمحطة جذب سياحي للزائرين الأجانب، غير أنها بالنسبة لمنظميها الكوريين تعد مصدرًا للآلام والأحزان الدفينة، لأنها أرتوت بدماء الملايين من أبناء الأمة الكورية الواحدة، بعد حرب أهلية امتدت لنحو 3 سنوات، وفي ضوء تهديد دائم بحروب، نتيجة لعدم نزع فتيل الحرب، وتوقيع معاهدة سلام بشبه الجزيرة.
تمتد المنطقة الكورية منزوعة السلاح بمسافة 250 كيلو مترًا، وتفصل الشطرين -مناصفة- بعرض كيلومترين، وتبعد عن عاصمة الجنوب، سول، بمسافة 60 كيلومترًا، وكذلك عن نظيرتها الشمالية، بيونج يانج، بمسافة 210 كيلو مترات.
بواسطة كاميرات مراقبة، يمكن للزائر رؤية العلم الكوري الشمالي المنتصب قرب مدينة كيسونج، وقد روعي بأن يكون أكثر طولًا من العلم المواجه له على الطرف الآخر بالشطر الجنوبي، وظل الجانبان يتباريان فيمن يصبح علمه أكثر طولًا، حتى بات العلمان بالمنطقة الحدودية الكورية المشتركة كأنهما أطول علمين في التاريخ!
أيضًا، يمكن للزائر أن يرى بالعين المجردة عددًا محدودًا من المزارعين الكوريين الذين يعيشون وسط الألغام الأرضية، بالإضافة إلى نباتات برية وحيوانات وطيور وزواحف، فضلا عن قيام الزائر بتفقد أحد المتاحف وعربة قطار بخارية قديمة، وشرائط صلاة العائلات المشتتة المعلقة بأسوار الأسلاك الشائكة، مع ترتيب جولة افتراضية تسلط الضوء على الآثار الثقافية والمباني والمواقع التراثية بالمنطقة.
أعود إلى ما بدأت به هذا المقال، لإعطاء المزيد من الشرح عن تجربة السير في في أحد الأنفاق العسكرية الكورية الحصينة، التي جرى الكشف عنها في الفترة من عام 1974 إلى 1990، بإجمالي أربعة أنفاق تحت سطح الأرض، في مواقع عامة "جنرال أوت بوستس" GOPs، ويتردد أن جيش كوريا الشمالية قام بحفرها.
يجري فتح النفق الثالث -الذي زرته- وسط تعليمات أمنية مشددة، ويبلغ الارتفاع بداخل النفق مترين، وعرضه كذلك، وطوله 1.6كيلومتر، وعمقه 74 مترًا تحت سطح الأرض، أي بطول مبنى مكون من ثمانية طوابق، وأنشئ في عام 1978.
كلما تعمق الزائر سيرًا على الأقدام داخل النفق زادت برودة الجو، وكذلك نسبة الرطوبة، ويجب على الزائرين ارتداء قبعة الأمان قبل الإذن لهم بالدخول، ولوحظ أن المصعد الذي جرى تشييده في عام 2002 لما يعد متاحًا للتيسير على الزائرين.
في أجواء مظلمة، يتحرك الزائرون -ببطء- عبر طريق ضيق للغاية ومحفوف بالمخاطر بالنفق، وفي نهايته، توجد ثلاثة حوائط خرسانية وأسوار مغلقة تمامًا. هنا، يجري إبلاغ الزائرين بأن كوريا الشمالية تبعد بمسافة 435 مترًا فقط، وبما أنني أتابع -عن كثب- الملف الكوري منذ عقدين، أدركت مدى خطورة ما أقدمت عليه، في ضوء إصرار الشطر الشمالي على ما أسماه محو الجنوب من الخريطة.
[email protected]