"تصورات ورؤى".. بداية لعل سؤالًا مهمًا يطرح نفسه على الساحة الفكرية العالمية، ألا وهو: أين موقع العقل العربي على خريطة الفكر العالمي في كافة مجالاته، فى المجال السياسي، المجال الاقتصادي، المجال الاجتماعي، المجال الثقافي؟
هل العقل العربي تبوأ مكانته التي حققها مثلا، أيام ابن رشد؛ من خلال مؤلفاته التي كانت تدرس في الغرب الأوروبي إبان العصور الوسطى؟
ما الذي قيده وأقعده عن إبداعاته، نعم أقول إبداعاته ودون أدنى تعصب، بقليل من التفكير وكثير من المنهجية والموضوعية، عقل خلاق مبدع، شاهدي على ذلك براعات هذا العقل فى شتى العلوم، يشهد بذلك المستشرق آدم ميتز في كتابه الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، الذي ترجمه طيب الذكر محمد عبدالهادي أبوريدة رحمه الله، يقول هذا المستشرق إذا أردت أن تسأل عن شتى صنوف العلوم والمعارف، فسأل القرن الرابع الهجري، ففيه نبغ النبغاء فى التاريخ والجغرافيا والطب والفلك والرياضيات والموسيقى والزخارف، وإذا أردنا أن نضرب أمثلة على العبقرية العربية الإسلامية، فهل أتاكم نبأ المقدسي الجغرافي الرائع الذي رسم الكرة الأرضية، وكذلك عالم النبات رشيد الدين الصوري الذي ابتكر منهجًا تجريبيًا أعتمد فيه على تصوير النبات حال نموه فى التربة عن طريق رسمه، وابن الهيثم وابن حيان، والزهراوي الطبيب الأندلسي، وفي مجال الفلسفة يكفينا مثال ابن رشد الذي -كما ذكرت آنفا- مؤلفاته كانت تدرس ويستفيد بها الغرب الأوروبي، وشاهدي على ذلك عقلانية القديس توما الأكويني، ممن استقاها من شروحات أرسطو، قارنوا إن شئتم بين خلاصات توما الأكويني ولا سيما الخلاصة اللاهوتية، وقارنوا بين شروحات ابن رشد على أرسطو، وكذلك رسالته في النفس الإنسانية وفصل المقال.
نعم العقلية العربية عقلية مبدعة، ومن ينكر ذلك فلابد من ضرورة التصدي له فكريًا، ولابد من مقارعته الحجة بالحجة.
ورب واحد يقول إن العقل العربي ارتدى عباءة العقل الغربي؛ ممثلا في اقتفائه الأثر الأوروبي المتمثل في الفلسفة اليونانية، حتى وإن كان ذلك كذلك، فهل هذا يمنع إبداعاته ولو حتى في العلوم العملية، وإن كنت أرى أن هذه ليست سبة ولا تهمة، لماذا؟ لأن الفكر سلسلة متصلة الحلقات، ظاهرة التأثير والتأثر، ظاهرة محمودة في الفكر، بل وتكسب الفكر حركية وديناميكية.
ومن ثم بات الأمر ملحًا لإعادة مكانة هذا العقل وإطلاق العنان له حتى يبدأ فى الانطلاق مثلما كان حاله.
إذن فلنعالج نقاط الخلل التي أقعدته عن الإبداع، فما معيقات إبداعاته؟
المركزية:
فما المقصود بهذه المركزية، التقوقع والتمركز حول الذات الفردية، بمعنى عشق الكلاسيكية والتغني بها والتسبيح بحمدها دونما نظرة مستقبلية، مركزية فرضتها على العقل النظرة إلى الماضي، أنا لا أقول دعكم من الماضي واركلوه بأقدامكم، ولكن لا تعيشوا في جلبابه، بل حرروا عقولكم واستنهضوها لمواكبة ركب التقدم الحضاري، كالذي يتغنى بأمجاد الماضي وحضارته، لكن أقول لهؤلاء: وماذا قدمتم أنتم لحضارتكم؟ ماذا قدمت أيها العقل لاستشراف المستقبل؟ يا أخي وظف هذا الموروث الحضاري للرقي بعقلك وعقول الآخرين، فليس معقولًا أن يكون العالم في وادٍ، ونحن في واد آخر!! ليس معقولًا والعالم يتحدث عن الميتافيرس والذكاء الاصطناعي، ونحن نتحدث كيف نستبرئ من الحدثين!! لا أقول لك لا تتعلم ذلك، ولكن انطلق بعقلك إلى الأمام.
التبعية البغيضة:
لماذا كتب على عقولنا أن تكون تابعة ومقلدة، لماذا كتب علينا أن نكتب ما يملى على عقولنا، لماذا جعلنا الآخر يسيطر على ذواتنا ويحتكر عقولنا، الإله تعالى رفض هذه التبعية من فوق سبع سموات، فهيا انتفضوا لنصرة عقولكم وتحريرها من قيودها، حطموا هذه القيود بفكر جديد، فعقولنا مبدعة وليست عاجزة عن الإبداع، قد نخفق مرة أو مرات لكن سننتصر لعقولنا وبعقولنا.
الأزمات الاقتصادية:
الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي ضربت العالم جميعًا ومنه عالمنا العربي، فأي إبداع سيحدث وأي اجتهادات لمفكرين ولا يجدون حتى ما يوفر لهم أدنى مقومات الحياة من مأكل ومشرب ومسكن، هل نطالب هذه العقول أن تبدع أو تفكر أو تبحث، فلنوفر لها الحياة الكريمة التي تغنيهم عن مذلة السؤال أولا، ثم نطالبهم بالتحرر، بتحرير عقولهم، فلا نلومهم إذا باعوا عقولهم، فلا لائمة تقع عليهم إذا انزووا وتركوا الحياة لهذه الشرذمة الضآلة المضلة.
الانهيار الثقافي:
انتشار ثقافة التفاهة بكل صورها وفي أبشع صورها، فأين الندوات والمؤتمرات الحقيقية؟ أين الاهتمام بالعقول المبدعة، نعم هناك اهتمام، لكنه اهتمام بالعجول وتسمين الرؤوس، لكن المبدع الحقيقي لا أحد يلتفت إليه، لا أحد يولي له اهتمامًا اللهم إلا بعض الندوات التي تتم في فضاء افتراضي، أو على صفحات الفيس بوك، أو على مجموعات الواتس أب، كأننا في مكلمة أو كمن يغنوا في غرف مغلقة، يغنون ويردون على أنفسهم والأدهى والأمر أن بعض المغنين يظنون أن أصواتهم جميلة، لكنها في حقيقة أمرها نشاز، وإذا ما لفت نظره هاجمك هجومًا شديدًا، هل بذلك سنرقى ونحرر عقولنا، أو نجد توجهات دينية أو شعبوية.
يا أخي يا أختاه قضيتنا الرئيسة تحرير هذا العقل العربي وإقالة عثراته وإفاقته من سباته الطويل، والانتقال به من مركزيته إلى اللامركزية، وإلا سيكون هذا العقل كمن يلف ويدور في دائرة متحدة المركز.
العلاج الناجع للخروج من هذا المأزق، كل يبدأ بنفسه ويأخذ الخطوة ويبدأ بتحرير عقله ويستمع للآخر، يستمع للعقل الجمعي، لعلنا نصل إلى غاية المرام.
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان