حفل يوم الرابع عشر من شهر مايو عام 1948، فقد كان يومًا مشهودًا في تاريخ أمتنا ومنطقتنا العربية، إذ فيه أعلن نكبة قيام دولة الكيان الصهيوني في فلسطين، بعد قرون من التشتت والتيه في أرض الله المختلفة، ويخطئ من يظن أن هذا اليوم كان الحدث الأوحد لميلاد هذا الكيان المغتصب لأرضنا ومقدساتنا العربية.
وبقراءة سريعة لذكرى النكبة أقول: إن الأفكار الصهيونية بدأت تتسلل إلى عقول اليهود في القرن التاسع عشر، وسبقه مخاض عقود من الزمن، كانت فيه الحركة الصهيونية بمشروعاتها تعمل فيه، وتسعى حثيثًا على قدم وساق، لإعادة توحيد الشعب اليهودي، وتأسيس وطن قومي له في أرضهم التاريخية، -أرض الميعاد- كما يعتقدون، ووصلت هذه المحاولات والمشروعات إلى ذروتها أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فجرى تأسيس المؤسسات الصهيونية والمستوطنات اليهودية في فلسطين.
وقد يسأل سائل، لماذا ارتبط قيام الكيان الصهيونى في فلسطين أساسًا بالدعم البريطاني؟
وهنا يجيب التاريخ الحديث بحقائقه فيقول: إن بريطانيا اهتمت منذ منتصف القرن التاسع عشر بفكرة إنشاء وطن قومي لليهود، وذلك لمصالحها العليا في المنطقة العربية، وصبًا في مصلحة إمبراطوريتها العظمى الرامية إلى ترسيخ نفوذها في المنطقة العربية، وتأمينًا لسيطرتها على المعابر البحرية التي تصلها بمستعمراتها في شرق آسيا، خاصة مع تدهور الدولة العثمانية، فكان الدعم المباشر الرئيس للحركة الصهيونية، من السياسيين البريطانيين، الذين أخذوا يروجون لفكرة إقامة وطن ودولة يهودية في فلسطين، فتلقف قادة الحركة الصهيونية، برئاسة رئيس منظمة الصهيونية العالمية "حاييم وايزمن"، هذا الدعم والمساندة، فعملوا على إقامة روابط قوية مع الساسة البريطانيين، كالدبلوماسي مارك سايكس، ووزير الخارجية المستقبلي آرثر بلفور، الذي أصدر في نوفمبر عام 1917 رسالته المشهورة والمعروفة بـوعد بلفور.
ونصت رسالة بلفور على أن بريطانيا تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، على ألا يجري أي شيء قد يؤدى الى الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للجماعات الأخرى المقيمة في فلسطين، ووُصفت الرسالة بأنها "وعد من لا يملك لمن لا يستحق"؛ لأن بريطانيا لم يكن لها أي حق سياسي أو قانوني في فلسطين، واعتبرت هذه الرسالة إشارة البدء والممهد الرئيس لفتح باب هجرة اليهود على مصراعيه الى أراضينا العربية بفلسطين، وقيام إسرائيل لاحقًا في الرابع عشر من مايو 1948.
وتسقط الدولة العثمانية، بعد شهر من وعد بلفور، وتدخل القوات البريطانية القدس في الحادى عشر من ديسمبر 1917، ويعقد مؤتمر "سان ريمو" الذي بموجبه تقاسمت بريطانيا وفرنسا المنطقة العربية، ليبدأ عهد الانتداب البريطاني في فلسطين على مدى ثلاثين سنة، استخدمت بريطانيا فيها كل ما يمكن لوضع فلسطين في حالة اقتصادية وسياسية وإدارية تسمح بإنشاء وطن قومى لليهود، فدعمت وفتحت باب شراء المواطنين الصهاينة للأراضي الفلسطينية لبناء المستوطنات، وأدى هذا لتهجير عشرات آلاف الفلسطينيين قسراً من بيوتهم.
لكن يبقى السؤال الأهم، لماذا حرص قادة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين تحديدًا دون غيرها لإقامة وطن قومي لهم فيها؟ والإجابة: لاعتقادهم أنها أرض الميعاد التي سيعودون إليها، ويجتمعون فيها، حسب ما جاء في كتبهم الدينية، إضافة لموقع فلسطين الجغرافي الإستراتيجي، الذي يهدفون من ورائه إلى احتلال العالم، وهذا ما أكده واعترف به "ناحوم جولدمان" الصهيوني الرائد، وأحد مؤسسي المؤتمر اليهودي العالمي ورئيسه من سنة 1951 إلى 1978، جنبًا إلى رئاسته للمنظمة الصهيونية العالمية من عام 1956 إلى 1968، قائلًا: "لم يختر اليهود فلسطين لمعناها التوراتي بالنسبة إليهم، ولا لأن مياه البحر الميت تعطي سنويًا، بسبب التبخر، قيمة ثلاثة آلاف مليار دولار من المعادن، وأشباه المعادن، وليس أيضًا لأن مخزون فلسطين من البترول يعادل عشرين مرة مخزون الأمريكتين مجتمعتين؛ بل لأن فلسطين نقطة الارتكاز الحقيقية لكل قوى العالم، ولأنها المركز الإستراتيجي العسكري للسيطرة على العالم".
ويأتى يوم النكبة المشئوم الرابع عشر من مايو 1948، يوم إعلان وثيقة قيام دولة الكيان الصهيوني بمدينة تل أبيب، بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين، وإعلان ديفيد بن جوريون الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية قيام الكيان الإسرائيلي، واحتلال الشعب اليهودي أرضه التاريخية كما أسماه، وكان الموقعون على الوثيقة 39 صهيونيًا؛ كلهم من يهود شرق أوروبا، وتحديدًا من بولندا وروسيا، باستثناء السفاردي الوحيد "بخور شالوم شيطريت" المولود في فلسطين بطبريا، والمزراحي الوحيد اليمني سعدية كوباشي.
شملت الوثيقة عددًا من المبررات الصهيونية ساقوها فيها، فكان منها المبرر التاريخي: كونها أرض الآباء والأجداد سابقًا، "لقد نشأ الشعب اليهودي في أرض إسرائيل"، والمبرر الطبيعي: "أنه لمن الحق الطبيعي للأمة اليهودية لأن تكون أمة في دولتها ذات السيادة مثلها في ذلك مثل سائر أمم العالم"، والمبرر القضائي الرسمي: بجمعهم كل المستندات الرسمية التي تثبت أحقيتهم في إقامة وطن لهم في أرض فلسطين مستقل، ويشمل ذلك وعد بلفور وقرار هيئة الجمعية العمومية للأمم المتحدة!!
ثم أخيرًا توجهت الوثيقة ليهود الشتات، بإعلامهم عن إقامة دولة للشعب اليهودي، مفتوحة الأبواب للهجرة اليهودية أينما كانت، ولدول العالم، تطالبهم بالاعتراف بها كدولة مستقلة ذات سيادة، وللدول العربية المجاورة، تطالبهم بتقبل وجودها، وتبدي استعدادًا والتزامًا للقيام بأي عمليات سلام، وأخيرًا توجهت الوثيقة لسكان الدولة بإعلامهم أنها دولة تقيم المساواة التامة، وتحافظ على الحقوق من غير التمييز في القومية، والعمل على منحهم حقوقهم، وحرياتهم بشكل متساوٍ.
وبهذا اكتملت أركان النكبة بقيام دولة الكيان الصهيوني في فلسطين.