تبدو منطقة الشرق الأوسط منهكة، ولا أحد يرغب في حريق جديد فيما عدا نتنياهو، وبينما يصر قادة إسرائيل على الذهاب بعيدًا في عدوانهم على غزة، وتصعيد الحرب في جنوب لبنان وصولًا إلى حرب مفتوحة مع إيران، وجر أمريكا ودول المنطقة إلى "حرب لا نهاية لها".
ففي المقابل نشهد لحظة وفاق نادرة في المنطقة ما بين دول الاعتدال، ودول ما يطلق عليها محور المقاومة بزعامة إيران، لقد تشكل الآن ثمة إجماع على أن السبيل الوحيد للخروج من النفق هو"حل الدولتين"، وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية.
.. وأعلنت إيران أنها لن تعترض جهود إقامة الدولة الفلسطينية، وقالت حماس إنها تقبل التحول إلى حزب سياسي، وحل الجناح العسكري، إذا ما أقيمت الدولة، وتزامن ذلك مع تأكيد تركيا قبول حماس لحل الدولتين.
.. وهذه القناعة الكبيرة "بالحل السلمي" سبق أن اختارته مصر، وقبلته، وعملت من أجل استعادة الاستقرار، وطوي صفحة "الحروب الدموية"، وطالبت بالتركيز على معركة التنمية ورخاء الشعوب، إلا أن إسرائيل دفعت دومًا باتجاه تصفية القضية الفلسطينية، ومحاولة ابتلاع الأرض وتهجير السكان طوعًا أو كرها.
ولذلك ظلت الانفجارات الدموية والحروب المحدودة تتفجر بانتظام، حتى وصلنا لطوفان الأقصى وحرب غزة، وعملية الإبادة الحالية، وخطر تفجير المنطقة.
.. وفي ظل مخاوف حقيقية من انفجار هائل فقد عملت مصر-ولاتزال- على استعادة الهدوء، ودفع الأطراف لتطبيق الحل السلمي، وإطفاء الحرائق، وإرسال التحذيرات من خروج الأمور عن السيطرة، وفي مقالة مهمة بعنوان"المراجعات مطلوبة من الجميع، يحذر د. محمد فايز فرحات من "تفجير المنطقة"، وقال بلهجة واضحة: "إسرائيل بحاجة إلى استنتاج مهم من هذه الأزمة مفاده أن السياسات الإسرائيلية في الإقليم بشكل عام، وتجاه الفلسطينيين بشكل خاص، يمكن أن تقود إلى تفجير الإقليم".
وأضاف: "أن أمن واستقرار الإقليم هو مصلحة إقليمية ودولية، ويرتبط بذلك استنتاج آخر، أن أمن واستقرار الإقليم يستند إلى ركائز مهمة أبرزها موازين القوى، والمعاهدات الرئيسة المنظمة لتفاعلات إسرائيل مع الدول الرئيسة بالإقليم، وهناك مصلحة مهمة في الحفاظ على هذه الركائز وصيانتها، فالسلوك الإسرائيلي في الإقليم بات يمثل تهديدًا لهذه الركائز، الأمر الذي سيؤثر بدوره على معطيات وتوجهات عدة في الإقليم".
.. وأحسب أن خطر العدوان الإسرائيلي يهدد مصالح الجميع؛ بما في ذلك الولايات المتحدة والغرب والصين والهند وروسيا وبقية العالم، والمدهش أن الإدارة الأمريكية -راعية إسرائيل- تبدو عاجزة عن كبح سياسات إسرائيل الخرقاء، ورغبة نتنياهو في الهروب إلى الأمام، وإشعال حريق كبير في المنطقة، إلا أن اللافت في الأمر هنا أن "سياسة حافة الهاوية"، التي يمارسها نتنياهو، قد تؤدي إلى تفجير المنطقة، وفي هذه الحالة ستكون واشنطن أكبر الخاسرين، ليس فقط فيما تحاول نسجه من "ترتيبات أمنية"، وصفقات لإدماج إسرائيل في محيطها الرافض لها، بل الخطورة الأشد هي تقويض أسس التعايش السلمي، وحل الصراع بحلول وسط بإعادة الأراضي المحتلة وإقامة الدولة الفلسطينية عبر التفاوض.
وبدلا من الحلول السلمية، فإن سياسات إسرائيل تفتح أبواب الجحيم الذي تفجر في أحداث غزة وجرائم الإبادة الجماعية، وهو الأمر الذي دفع جنوب إفريقيا لإقامة دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية؛ للنظر في انتهاكات إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في غزة.
وأعلنت مصر عزمها التدخل رسميًا لدعم دعوى جنوب إفريقيا، وأكد بيان الخارجية المصرية أن ذلك يأتي في ظل تفاقم حدة ونطاق الاعتداءات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، ودفع الفلسطينيين للنزوح والتهجير خارج أرضهم، مما أدى إلى أزمة إنسانية غير مسبوقة.
.. ويبقى أن مصر تدرك خطورة ودقة الموقف، وتعمل بكل قوة لتجنب تفجير المنطقة، فالخطر تكلفته غالية جدًا: موجات هجرة واسعة، وموجة إرهاب أشد عنفًا، ومزيد من الدمار والدول الفاشلة، وهنا إسرائيل سوف تكون أول من يتذوق مرارة الخراب الكبير وبالقطع أوروبا.
.. وأحسب أن مصر لن تكون بمفردها في محاولة احتواء الحريق الكبير، فالدول العربية بأكملها تدرك ذلك وتدعم مصر، وأكدت دول الخليج بوضوح أنها لا توافق على سياسات نتنياهو الخطيرة، وأخبرت واشنطن أنها لا تريد التورط في نزاع مع إيران.
.. وعلى الأرجح فإن بقية دول العالم؛ مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وأوروبا، التي تعتمد على واردات النفط من المنطقة، لا ترغب في توقف الإمدادات أو ارتفاع الأسعار بصورة هائلة "150 أو200 دولار"، كما أن هذه الدول وبقية العالم لا تتحمل توقف أو شلل جديد في سلاسل الإمدادات، أو ضربة قاصمة لحركة التجارة التي تمر من قناة السويس والممرات البحرية بالمنطقة.
ومن هنا يجب إيصال هذه الرسالة بوضوح للرأي العام الدولي، وللولايات المتحدة، والتي تغامر بفقدان رصيدها في هذه المنطقة الحيوية، خاصة أن هناك قوى أخرى تتحفز لملء الفراغ الأمريكي، وتقدم عروضًا بشروط أفضل، والآن تتعاون بصورة أوثق مع الدول الكبرى بالمنطقة.