تتصاعد الدعوات بين الحين والآخر لإنهاء هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي، وذلك بعد أن ارتفعت قيمته أمام العملات الأخرى بقوة في العامين الأخيرين بالتزامن مع رفع الفائدة الأمريكية، وهو ما سبب تداعيات سلبية على الاقتصادات المتقدمة والناشئة على السواء.
وتعتبر الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، التي بدأت قبل نحو ست سنوات، بالإضافة إلى العقوبات الغربية على روسيا نتيجة حربها مع أوكرانيا، والسعي نحو بناء نظام اقتصاد عالمي متعدد الأقطاب، من المحركات الرئيسية لتلك الدعوات التي تهدف إلى تقليص هيمنة الدولار.
بالإضافة إلى ذلك، باتت الاقتصادات الناشئة تمثل حصة متنامية باطراد في الاقتصاد العالمي، وتسهم بنشاط متزايد في التجارة والمالية عبر الحدود، ومن البديهي أن تلعب عملاتها بشكل حتمي دورًا أكثر أهمية.
تغيرات متلاحقة
وواقع الأمر يشير إلى تغيرات سريعة ومتلاحقة على نظام سعر الصرف الدولي، بدأت مع انضمام اليوان أو «الرنمينبي» الاسم الرسمي للعملة الوطنية الصينية، إلى العملات الأربع المكونة لحقوق السحب الخاصة في صندوق النقد الدولي عام 2016، وهي الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الإسترليني.
وكانت هذه الخطوة علامة مهمة وفارقة على مسار اندماج الاقتصاد الصيني في النظام المالي العالمي، وانعكاسًا لتوسع الدور الذي تقوم به الصين في التجارة العالمية والزيادة الكبيرة في استخدام اليوان وتداوله على المستوى الدولي.
ومنذ ذلك الحين بدأ اليوان يكتسب المزيد من الزخم، وحققت العملة الصينية تقدمًا في مكانتها الدولية ولو بمعدلات قليلة، وتسارع استخدامها على نطاق واسع، وأصبحت ضمن عملات الاحتياطي الأجنبي في العديد من الدول، وهو ما أسهم في تزايد مساهمتها في تداولات سوق الصرف الأجنبي.
ورغم أن العملة الصينية لا تعتبر بعد عملة دولية قيادية، إلا أن مكانة الاقتصاد الصيني، الذي يحتل المرتبة الثانية عالميًا بعد نظيره الأمريكي، فرضت واقعًا جديدًا نظرًا لضخامة حجم التجارة الخارجية للصين.
إذ إن الأموال تقتفي أثر التجارة، ففي عام 2023، بلغ حجم التجارة الخارجية للصين 41.76 تريليون يوان (5.87 تريليون دولار).
كما أفضت الاتفاقيات الثنائية التي وقعتها الصين مع عدة دول لتنفيذ المعاملات التجارية (استيرادًا وتصديرًا) بالعملات المحلية، بدون اللجوء للدولار، إلى زيادة هائلة في صفقات التبادل التجاري، قدرتها بكين بنحو 586 مليار دولار.
وبينما تزايدت حصة اليوان بأكثر من الضعف، بزيادة تتراوح بين 4 و8%، تراجعت حصة الدولار في مدفوعات تمويل التجارة منذ بداية عام 2022، وذلك في الكتلة الصينية.
تبادل العملات
ولم تكتف الصين بذلك، بل وقع بنك الشعب (المركزي الصيني) 31 اتفاقية ثنائية لتبادل العملات مع أكثر من 40 بنكًا مركزيًا أو سلطة نقدية أجنبية بقيمة إجمالية تبلغ نحو 4.16 تريليون يوان (586 مليار دولار).
وتبادل العملات الثنائية بين البنوك المركزية عبارة عن ترتيبات تمويلية يمكن من خلالها للبنك المركزي لبلد ما تبادل عملته المحلية بعملة أخرى، ويمكن استخدام أموال التبادل لدعم الأنشطة التجارية والاستثمارية الثنائية، ما يساعد على توفير تكاليف الصرف وتقليل مخاطر أسعار الصرف، وذلك بعيداً عن الدولار.
فضلاً عن ذلك، سبق البنك المركزي الصيني غيره من البنوك المركزية الكبرى في تطوير عملة رقمية مركزية، ورغم اقتصار هذه العملة الرقمية على الاستخدام المحلي حاليًا، فإنها تسهم في تسهيل استخدام اليوان دوليًا، لا سيما في البلدان التي تنجذب نحو تكتل مرتقب للعملة تقوده الصين، وهو ما يوفر للحكومة الصينية نافذة للاطلاع على معاملات مستخدمي العملة الرقمية.
اليوان عملة احتياط
كما أحرز اليوان قدراً من التقدم باعتباره إحدى العملات الدولية، منذ عام 2016 الذي تم فيه إدراج العملة في سلة العملات المُشكلة لحقوق السحب الخاصة بالصندوق، حيث يُستخدم في تنفيذ 3% تقريباً من معاملات الدفع الدولية، كما يشكل نحو 3% من احتياطيات النقد الأجنبي العالمية.
وبعيداً عن المخاوف الصينية من تعويم اليوان وما يتبع ذلك من ارتفاع قيمتها في سوق الصرف الأجنبي وتأثيرها سلباً على تنافسية الصادرات، إلا أنه بات واضحاً أن هناك طموحاً صينياً لتدويل هذه العملة لتكون ضمن أهم العملات الدولية الصعبة، خاصة بعد الأزمات التي مر بها الاقتصاد العالمي كالأزمة المالية عام 2008 وجائحة كوفيد-19 قبل 4 أعوام، والحرب الروسية الأوكرانية وما تبعها من عقوبات اقتصادية على موسكو.
قوة الدولار
لكن السؤال المطروح الآن، هل تؤدي التغيرات اللافتة في النظام النقدي الدولي، السابق ذكرها، إلى تنحي الدولار عن مركزه باعتباره العملة الدولية المهيمنة؟
الأرقام والحقائق الواردة في إحصائيات صندوق النقد الدولي وبنك التسويات الدولية، وحدها تجيب عن هذا التساؤل، فالبنوك المركزية حول العالم تستثمر حوالي 60% من احتياطيات النقد الأجنبي، والتي تمثل في الأساس احتياطيات لمواجهة الخسائر المستقبلية، في أصول مقومة بالدولار. كذلك يُستخدم الدولار في تقويم غالبية المعاملات المالية الدولية وتسويتها.
هناك عوامل أخرى داعمة لهيمنة الدولار، لا سيما الخسائر المحتملة في حالة تراجعه، إذ تبلغ حيازات المستثمرين الأجانب، بما في ذلك البنوك المركزية، من دين الحكومة الأمريكية نحو 8 تريليونات دولار. كما يبلغ إجمالي الالتزامات المالية الأمريكية تجاه باقي العالم 53 تريليون دولار. ونظرًا لأن هذه الخصوم مقومة بالدولار، لن يؤدي تراجع قيمة الدولار إلى أي تغيير في حجم التزامات الولايات المتحدة، ولكنه سيحد من قيمة هذه الأصول بعملات البلدان التي تمتلكها. فحيازات الصين من سندات الحكومة الأمريكية على سبيل المثال ستتراجع قيمتها باليوان.
من جهة أخرى، نجد أن حيازات المستثمرين الأمريكيين من الأصول الأجنبية، والتي تبلغ 35 تريليون دولار تقريبًا، مقومة بالكامل بعملات أجنبية. وبالتالي فإن زيادة قيمة تلك العملات مقابل الدولار تعني زيادة قيمة الحيازات إذا ما تم تحويلها بالدولار.
ورغم أن الولايات المتحدة تصنف كمدين صاف تجاه باقي العالم، فإن تراجع قيمة عملتها قد تنشأ عنه أرباح استثنائية لصالح الولايات المتحدة وخسائر ضخمة في باقي العالم. لذلك ففي المستقبل القريب، يمكن أن يثير التراجع الحاد في قيمة الدولار مخاوف حتى بين منتقديه، ليظل العالم رهنًا لهيمنة الدولار.
نظام متعدد العملات
خلاصة القول.. رغم أن الدولار لا يزال يهيمن الدولار على جميع جوانب النظام المالي العالمي،خلاصة القول.. رغم أن الدولار لا يزال يهيمن الدولار على جميع جوانب النظام المالي العالمي، لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً بالنسبة لسياسة سعر الصرف الدولية، هو التوجه نحو نظام عملات متعددة تتمحور حول الدولار واليورو واليوان.
فنحن نعيش في عالم متعدد القطبية وعالم متعدد العملات بشكل متزايد، والانطلاقة السريعة للاقتصادات الناشئة أدت إلى إعادة توزيع مراكز النمو الاقتصادي في العالم وانتقال الثقل الاقتصادي من الغرب إلى الشرق.
وتدفع مجموعة بريكس، التي تضم حاليًا 12 دولة ناشئة وتمثل 28.3% من الاقتصاد العالمي بنهاية عام 2023، باتجاه نظام نقدي متعدد الأقطاب.
وفي العقود القادمة ستكون هناك تغيرات هائلة في نظام سعر الصرف العالمي، وفي المستقبل البعيد ستلعب عملات الاقتصادات الناشئة كاليوان الصيني، وربما الروبية الهندية، دورًا مهمًا، وستقوم بدور رئيسي في الاحتياطيات العالمية لأنها أصبحت رقمًا مهمًا جدًا في التجارة العالمية والنقد.