عبارة خطيرة درج عليها اللسان حتى أصبحت - لدى البعض - يقيناً مسلماً به وحجة يرتكن إليها ويتخذها مبرراً لعدم الإحسان على أحد، خوفاً من الشر الذى "حتماً" سوف يأتى ممن تحسن إليه، وفقاً لسياق العبارة المطلق.
لو كان الوضع كذلك لما أكد الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم حبه للمحسنين في أكثر من موضع. فى سورة البقرة (وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "آية 195") ومرتان فى سورة آل عمران (الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"آية 134" .. فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" آية 148") ومرتان فى سورة المائدة (... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ "آية 13" .. ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ"آية 93") . إضافة إلى ما ورد في سورة النحل (إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِینَ ٱتَّقَوا۟ وَّٱلَّذِینَ هُم مُّحۡسِنُونَ"آية128") وسورة العنكبوت (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ"69").
إن دل هذا على شيء فإنما يدل على ضرورة الاتفاق والإقرار بأنه لا يصح تعميم عبارة "اتق شر من أحسنت إليه"، ولا يجب النظر إليها إلا كونها مجرد مقولة، جرت بها ألسنة الناس على سبيل الإشارة إلى معانٍ ومواقف حدثت للبعض وخرج منها بدرس وعبرة، ومع تكرارها ارتقت واستقرت على الألسنة وأصبحت فى مصاف الحكم والأمثال الشعبية.
المغزى من تلك الحكمة أن البعض قد أطاع الله سبحانه وتعالى وأحسن إلى آخرين، فلم يلاقِ منهم إلا جحوداً ونكراناً وربما شراً وأذى! فى حدود ذلك المعنى نقول نعم هذا أمر وارد وتكرر مع الكثيرين بأشكال متعددة، إن لم ترق إلى الأذى فلا تقل عن الجحود والنكران.
لكن هل يوجد فى كتاب الله تعالى أو السنة أو روايات السلف ما يؤيد مضمون تلك المقولة؟ وفقاً للمصادر المتاحة يقول الإمام القرطبي عن الإمام القشيري إن مقولة اتق شر من أحسنت إليه تجد ما يؤيدها فى القرآن الكريم "وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ" سورة التوبة (74). حقاً وهل هناك أكثر من إحسان الله سبحانه وتعالى على خلقه، ثم إنكارهم وجحودهم لذلك الإحسان، بل زاد غلوهم في الإنكار لينكروا المحسن ذاته!
يقول الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه: الكريم يلين إذا استعطف، واللئيم يقسو إذا ألطف، أيضاً ورد عن أحد الأئمة: كن من الكريم على حذر إذا أهنته، ومن اللئيم إذا أكرمته، ومن العاقل إذا أحرجته، ومن الأحمق إذا رحمته، ومن الفاجر إذا عاشرته، وليس من الأدب أن تجيب من لا يسألك، أو تسأل من لا يجيبك، أو تحدث من لا ينصت لك.
إذن كيف نتقي شر هذا اللئيم؟ هذا الشخص الذى لن تجد منه إلا قسوةً وجحوداً وإن أكرمته؟ كيف نتقي شر شخص لا يشغله ما يسببه من ضرر للآخرين طالما تحققت مآربه الخاصة؟ شخص يعتنق المبدأ الميكافيللى الشهير "الغاية تبرر الوسيلة".
يمكنك أن ترى وتعايش هؤلاء فى كل مكان وزمان. من النماذج الشهيرة والمنتشرة، من تساعده وتنهض به فيعلو شأنه وتتحسن أحواله، وفجأة وبمجرد أن تختفي من على الساحة ينسى أمرك تماماً، بل ربما تمنى فى قرارة نفسه ألا يذكر أحد اسمك أمامه، فقد أصبحت عورة يريد أن يداريها بأى شكل، لن يسأل عنك ولو بمكالمة تليفونية، لا لشيء إلا لأنك اختفيت من المشهد ولم تعد لك فائدة. وياليتك ترى نفس الشخص إن عدت مرة أخرى إلى الساحة! وهذا الذى قست عليه الحياة فنال العطف والحنان من الكثيرين، وما إن ابتسمت له الدنيا حتى انقلب حاله وتبدلت أحواله، فتجده يجلس ليعلنها مدوية "من له فضل فليحاسبنى".. كيف ذلك؟ من أين يبدأ هذا الحساب وأين ينتهي؟ ما تملكه اليوم من مليارات لا يساوى قيمة القرش الذى ساعدك به أحدهم فى الماضى، ببساطة لأنه ساعدك به عن طيب خاطر وهو لم يكن يملك غيره، كيف يمكن إذن تقدير ذلك؟
وهذا تجده يقف إلى جوار شخص آخر فى ظروفه الصعبة وينقذه ولا يتخلى عنه فى لحظات ضعفه، وعندما تتحسن الأحوال وتبتسم له الدنيا، ينساه وربما تنكر منه صارخاً بأعلى صوته أنا لم أطلب مساعدة من أحد، هو الذى بادر بالمساعدة، لا شأن لى بذلك! نموذج عجيب يصعب وصفه.
وقد يتمثل الإحسان والمساعدة أحياناً فى الإخلاص والأمانة والنصيحة الصادقة، لا تتعجب إن رأيت من يقابل ذلك بالجحود والنكران وربما الأذى، وغالباً ما تراه يسير متفاخراً ومتباهياً بنصاحة عقله التى أوصلته إلى ما هو عليه دون مساعدة من أحد.
السؤال المحير هو كيف ولماذا يصل الشخص إلى هذا المستوى من الجحود والنكران لكل من ساعدوه؟ ترفض نفسه أن تراهم أو تعترف بهم أو مجرد الحديث عنهم.. ما الذى قد يُنقِص الشخص إذا اعترف بفضل أحد عليه؟ وهل غيرته الظروف فعلاً أم تلك هى حقيقته التي كانت خافية على من حوله؟