توقفت طويلاً أمام ما قاله المؤرخ الكبير الدكتور عاصم الدسوقي من أن نشأة إسرائيل جاءت نتيجة اندماج أو تحالف المهاجرين البروتستانت "الإنجيليين"، أتباع مارتن لوثر كينج الذين تعرضوا للاضطهاد في بريطانيا، مع اليهود الذين هاجروا أيضاً من بريطانيا إلى أمريكا نتيجة اضطهاد "البروتستانت" لهم بعد أن قويت جماعة الإنجيليين في بريطانيا، وكان السبب رفضهم وتحريمهم لعمليات "الربا" التي يعمل بها اليهود.
كان كلام الدكتور عاصم، وهو المؤرخ الفذ، غريباً بالنسبة ليّ لأنه نفى تماماً ما قاله "الأستاذ" محمد حسنين هيكل من أن التفكير في دولة يهودية في المنطقة جاء بعد هزيمة محمد علي حتى لا يكون هناك دولة تضم مصر والشام.
ومن اللافت أن الدسوقي قال في حواره مع إحدى المنصات الإلكترونية قبل ثلاثة أشهر، والذي لم أشاهده إلاّ قبل أيام قليلة: "بداية التفكير في إنشاء إسرائيل جاء في نهاية القرن التاسع عشر وليس بدايته"، وربما يندهش البعض من إثارة مثل هذه القضية، وما أهمية ذلك في الصراع الدائر منذ سنوات طويلة، ونرى آثاره الكارثية على كل المنطقة؟
وقبل أن أتطرق للإجابة ينبغي أن نطل أولاً على ما أباحت به الوثائق البريطانية عن تلك الفترة من بداية القرن وليس نهايته، كما أشار الدكتور عاصم الدسوقى. إذ بعد اتفاقية لندن 1840 التي قيدت توسعات محمد علي بحكم مصر له ولأسرته وحكم عكا طوال حياته. فالدول الغربية - كما سنكتشف من الوثائق - تنبهت لخطورة تكوين دولة تضم مصر والشام في بقعة جغرافية متماسكة ومتصلة، ومن هنا نفهم سبب رفض محمد علي لإنشاء قناة السويس، إذ قال: "لا أريد بسفوراً جديداً في مصر" كما ذكر الدكتور عاصم.
وأول ما ينبغي التوقف عنده مراسلات الخارجية البريطانية في عهد لورد بالمرستون الذي ترأس الدبلوماسية البريطانية من عام 1830 وحتى عام ١٨٤١. هذا الرجل كان شديد العداء لمشروع محمد علي ووقف ضده بقوة، وهو من قال: في عام ١٨٤٠: "ستكون فلسطين اليهودية سداً في وجه أي محاولات شريرة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام، وتهدد مصالحنا من جديد" هذا كلام يعادي بوضوح وجود دولة قوية في المنطقة، ويسعى في وقت مبكر جداً لخلق دولة تكون يهودية على وجه الخصوص، وتفصل جغرافية العالم العربي.
ففي مارس عام ١٨٣٩ أرسل القنصل البريطاني في القدس وليام يونج برقية إلى وزير خارجيته بالمرستون، يطالب فيها بضرورة الأخذ بعين الاعتبار أن اليهود هم أصحاب الحق الإلهي في الأرض، على أن تكون بريطانيا هي الحارس الطبيعي لهم.
وفي أغسطس 1840 بعث وزير الخارجية بالمرستون إلى سفير بلاده في إسطنبول برقية يكشف فيها عن أهمية حصول اليهود على مباركة الإمبراطورية العثمانية على الاستيطان في فلسطين.
وفي فبراير ١٨٤١ يبعث بالمرستون برسالة أخرى إلى سفير بلاده في تركيا يوضح فيها أهمية دور السلطان عبد الحميد الثاني في تشجيع اليهود على الهجرة إلى فلسطين تحت حماية بريطانيا.
هذا أمر كاشف وساطع في أن بريطانيا سعت لتأسيس دولة لليهود للحيلولة دون تكرار دولة محمد علي. وهذا ما أكده الزعيم الصهيوني حاييم وايزمن "أول رئیس لإسرائيل" في مذكراته: "لم يكن الأمر في حاجة إلى ذكاء كبير لكي ندرك - نحن اليهود - أن البريطانيين يشعرون برعب شدید من إنشاء دولة عربية موحدة تضم مصر وفلسطين وبقية أنحاء الشام، فتهدد طرق المواصلات بين بريطانيا ومستعمراتها وتُكرّر تجربة محمد علي الذي أنشأ دولة عربية، ودفع الأوربيون ثمناً باهظاً من دمائهم وأموالهم حتى استطاعوا تحطيمها".
وكان هذا الأمر هو النهج الذي سلكه وايزمن لكي يحصل على وعد بلفور إذ يقول: "حين وصلت مانشستر.. تأملت المصانع الضخمة التي تحول القطن المصري إلى غزل ونسيج، فزادت ثقتي بأن بريطانيا ستساعدنا على تحقيق أهدافنا ، فوجودنا سيضمن إمداد تلك المصانع بالقطن المصري الذي لم تكن تستطيع العيش بدونه".
وقبل كل هذا كان هناك خطط متركزة حول هجرة اليهود إلى فلسطين تمهيداً لإنشاء إسرائيل، فعلى سبيل المثال كان جيمس روتشيلد "1790 – 1868" مولعاً بشراء الأراضي في فلسطين، ونقل اليهود إليها. وعنه ورث ابنه إدموند ذات النشاط، ومن ثم توسع فيه، بل وفرغ نفسه لإدارة وتمويل المستوطنات وموَّل جمعيات عشاق صهيون التي تأسست قبل المنظمة الصهيونية بسنوات، وكان هدفها الأساسي نقل اليهود إلى فلسطين.
إذن كان هناك مخطط سياسي استعماري يستهدف المنطقة بكاملها، وليس مجرد تلاقى رغبة الإنجيليين مع طموحات اليهود في نهاية القرن التاسع عشر، كما أشار الدكتور عاصم. فضلاً عن أن السعي لإنشاء دولة صهيونية بدأ في بريطانيا وليس أمريكا.
وإذا كنت لا أنكر وجود اتفاق وثيق بين الإنجيليين واليهود على تحقيق رغبة يعتقد كل منهم في قدسيتها على أرض لا تمت لهم بصلة، فإن التاريخ يكشف أن الأمر كان وما زال حالة استعماريةوعنصرية، فإسرائيل - كما يقول الدكتور جمال حمدان– قامت وأقیمت لحساب نفسها، ولحساب الاستعمار العالمي الذي يعتبر إسرائيل قاعدة متكاملة عسكرياً، ورأس جسر ثابت استراتيجيا، ووكيل عام اقتصادياً، وعميل خاص احتكارياً. "فاصل أرضى يمزق اتصال المنطقة العربية ويخرب تجانسها ويمنع وحدتها وإسفنجة غير قابلة للتشبع تمتص كل طاقتها ونزيفاً مزمنًا فيمواردها... وإسرائيل بهذا المعنى دولة مرتزقة لا شك، تعمل مأجورة في خدمة الاستعمار العالمي، بمثل ما هي صنعته وضيعته وربيبته…
فالاستعمار العالمي هو الذي خلق إسرائيل بالسياسة والحرب، وهو الذي يمدها بكل وسائل الحياة.. ثم هو الذي يضمن بقاءها.. ولذلك فتكاد تكون الحالة الوحيدة في العالم التي تجسدت فيها آخر مراحل الاستعمار القديم".
هذا يعنى أن إسرائيل تأسست برغبة وتخطيط تآمر غربي على المنطقة العربية، ثم جرى خلق مبرر وجودها دينيًا.