أزمات متلاحقة يواجهها الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة، بدءًا من جائحة كوفيد 19، وتراجع سلاسل التوريد، وموجات التضخم، مرورًا بالحرب الروسية الأوكرانية، والتوترات الجيوسياسية في العديد من المناطق حول العالم. غير أن التغير المناخي يعد الخطر الأكبر والأهم والذي قد يقلص النمو الاقتصادي ويلتهم غذاء العالم.
ففي مناطق عدة حول العالم، أثرت التغيرات المناخية على المحاصيل الزراعية، وأدت إلى اضطراب اقتصاديات القطاع الزراعي والمجتمعات الفلاحية التي تعتمد عليه في غذائها أو صادراتها.
وتسبب الطقس "المتطرف" في القضاء على الأخضر واليابس، بعدما دمرت الفيضانات وموجات الجفاف المحاصيل من القمح والذرة والأرز إلى البن، وهو ما رفع أسعارها بشدة.
ونتيجة لتلك الكوارث، تفاقمت الأزمات التي تواجهها البشرية، حيث تضاعف عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد في جميع أنحاء العالم في السنوات الأخيرة، ليقفز من 149 مليون شخص قبل الجائحة إلى 333 مليونًا خلال العام الفائت، كما استمرت الأحداث المناخية القاسية في دفع السكان إلى النزوح خلال 2023.
خسائر قياسية للاقتصاد العالمي
من المرجح أن يتسبب التغير المناخي في خسائر قدرها بقيمة 38 تريليون دولار سنويًا للاقتصاد العالمي بحلول منتصف القرن الجاري، حيث يُتلِف الطقس المتطرف المحاصيل الزراعية ويضر بإنتاجية العمالة ويدمر البنية التحتية.
ويشير تقرير لمعهد بوتسدام لبحوث تأثيرات المناخ، إلى أن ارتفاع درجة حرارة الأرض يؤدي إلى انخفاض الدخل بنسبة 19% عالميًا بحلول منتصف القرن، مقارنة بوضع الاقتصاد العالمي دون تغير المناخ. واستخدم التقرير بيانات من 1600 منطقة حول العالم خلال الأربعين عامًا الماضية لتقويم التأثيرات المستقبلية لارتفاع درجة حرارة الكوكب على النمو الاقتصادي.
وفي دراسة أخرى لبلومبرج إنتلجينس، أدت انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون التي أحدثتها البشرية إلى ارتفاع درجة حرارة العالم بنحو 1.1 درجة مئوية في المتوسط منذ عصور ما قبل الثورة الصناعية، مما سبب ظواهر جوية شديدة التقلب بلغت تكلفتها حوالي 7 تريليونات دولار خلال الـ 30 عامًا الماضية. بينما استمرت الأضرار الناجمة عن المناخ في الارتفاع، إذ بلغ متوسطها نصف تريليون دولار سنويًا، تمثل نحو 2% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة، منذ 2016.
الدول النامية تدفع الثمن
من سخرية القدر، أن الدول النامية، التي أسهمت بقدر أقل في ظاهرة الاحتباس الحراري، تتحمل الكم الأكبر من الخسائر والأضرار عن تغير المناخ. وفقًا لمؤسسة "وورلد ويذر أتريبيوشن" غير الربحية، شهدت الدول النامية في آسيا وأفريقيا فيضانات مدمرة خلال الأسابيع الماضية، كما زادت احتمالات موجات الجفاف المعتادة في بعض دول إفريقيا 100 مرة بسبب ارتفاع درجات الحرارة بمقدار 1.2 درجة مئوية التي شهدناها حتى الآن.
ومن المتوقع أن تعاني الدول النامية الأقل تسببًا في التغير المناخي من تراجع الدخل بنحو 60% أكبر من نظيراتها مرتفعة الدخل، وأكثر بنسبة 40% من الدول ذات الانبعاثات الأعلى، كما أن لديها أقل الموارد للتكيف مع الآثار الحالية.
يأتي هذا في وقت تزعم فيه شركات النفط العالمية أن البلدان ذات الدخل المنخفض تحتاج إلى استخدام الوقود الأحفوري، البترول والغاز، الذي لطالما كان رخيصًا ووفيرًا حتى تلحق بركب العالم المتقدم.
بل وتُصر على أن هذه البلدان لا ينبغي لها أن تخاطر بالمعاناة من فقر الطاقة بسبب الاندفاع بسرعة بالغة إلى مصادر الطاقة المتجددة، كما ترى هذه الشركات أن الشعوب لن تتقبل التدهور في مستوى المعيشة العالمي، حيث تزعم أن تحقيق هدف صافي انبعاثات الكربون الصفري بحلول عام 2050 يتطلب ذلك.
التحول في قطاع الطاقة
رغم قتامة الوضع الراهن، فإن هناك بصيص من الأمل، ففي مؤتمر المناخ "كوب 28" بدبي العام الماضي، التزمت الدول بمضاعفة قدرة الطاقة المتجددة على كوكب الأرض بمقدار ثلاثة أضعاف لتصل إلى 11 ألف جيجاواط على الأقل خلال 6 سنوات، فضلا عن مضاعفة معدل كفاءة استخدام الطاقة بحلول نهاية هذا العقد.
كما اتفق زعماء العالم أيضًا على التحول بعيدًا عن الوقود الأحفوري، وهو ما يُنظر إليه على أنه خطوة ضرورية نحو الوصول إلى صافي انبعاثات الغازات الدفيئة بحلول منتصف القرن.
فالعالم يحتاج إلى استثمار نحو 6 تريليونات دولار سنويًا لتحقيق هدف اتفاقية باريس للمناخ بالحد من الاحترار العالمي إلى درجتين مئويتين. وإذا فشلنا في التخفيف من وتيرة ارتفاع الحرارة من خلال الانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، فإن الضرر الاقتصادي سيرتفع ليتجاوز 60% من الدخل العالمي بحلول عام 2100.
إن التغيير الهيكلي نحو نظام طاقة متجددة ضرورة للأمن الاقتصادي والاجتماعي، لكن البقاء على المسار الذي يسلكه العالم حاليًا يؤدي إلى نتائج كارثية.