المتتبع لحركة الاقتصاد العالمي منذ عام 2020 وبداية ظهور وباء كورونا، وحتى وقتنا هذا، سيدرك تماماً أن دول العالم قد انجذبت إلى ما يشبه الدوامة البحرية، ويعرف من يجيدون السباحة أن الدخول في الدوامة له قواعد، كما أن الدوامات ليست مدمرة كما تم تصويرها في الخيال. ومع ذلك فإنها تشكل خطرا على البشر والقوارب الصغيرة، إذا لم يتم أخذ الحذر باستهداف الحافة الخارجية بدلا من المركز.
وأرى أن تلك الدوامة قد بدأت منذ عام 2018، وتوجه كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية إلى اتباع السياسات الحمائية، ووضع القيود على حركة التجارة الخارجية، لتستكمل صورة السياسات الحمائية الصريحة بانتشار الكورونا عام 2020، ليسود الركود والتباطؤ التجاري على كافة دول العالم، ليعقب ذلك محاولات لتحريك الاقتصاد العالمي، إلا أن الطلب جاء أكثر من العرض وهو الأمر الذي أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم بصورة غير مسبوقة، ومن أجل السيطرة على هذا الوضع الاقتصادي، لجأت البنوك المركزية إلى رفع معدلات التضخم، لنصل إلى التحرك التدريجي نحو كسر حدة ارتفاع معدلات التضخم العالمية منذ أوائل عام 2023، وذلك باتباع سياسات مغايرة أساسها الإنفاق الحكومي ومقابلة الطلب بزيادة المعروض الاستهلاكي، ليبدأ الاقتصاد العالمي في السيطرة المحدودة على معدلات التضخم، ليتحول الوضع الاقتصادي إلى ركود تضخمي استمر حتى نهاية عام 2023.
ليأتي تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد العالمي في أبريل 2024 بعنوان"ثابت ولكن بطيء:الصمود وسط الاختلاف" وهو مايعكس الوضع الاقتصادي العالمي المبهم المائل إلى التحرك البطيء، وفي ذلك إشارة واضحة إلى ان الاقتصاد العالمي سيتحرك خلال الفترة المقبلة بصورة بطيئة للغاية أقرب ما تكون إلى الثبات، كما أن العنوان يعكس قابلية الاقتصاد العالمي إلى الصمود وسط التوترات التي يشهدها العالم على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وحتى نصل إلى تلك المكانة سيحتاج الأمر إلى السيطرة على النزاعات الجيوسياسية، فمازال صدى النزاع الروسي الأوكراني يلقي بظلاله، كما أن النزاع الإسرائيلي الفلسطيني مازال قائم، لتضم الحلقة إيران لتزداد حدة عدم الاستقرار، وهو الامر الذي يضع حواجز أمام تدفق السلع ورأس المال والأشخاص ويؤثر سلبياً على الأنشطة الاقتصادية، وفي مقدمتها التسويق العقاري، والتبادل التجاري، ويزيد من مخاوف ارتفاع الديون الحكومية لتعويض الانخفاض في الإيرادات، واتجاه العديد من الاقتصادات نحو زيادة الضرائب، مما قد يؤدي إلى تقويض الثقة في الحكومات. ومع تزايد حدة الصراعات وصعوبة الانتقال يزداد اللجوء إلى استخدام الذكاء الاصطناعي كبديل لتحفيز الإنتاجية،ووسيلة في ذات الوقت لتدعيم الإصلاحات الهيكلية، وهي المرحلة التي يمكن أن نطلق عليها محاولات الخروج من الدوامة الاقتصادية.
ووفقا لتنبؤات صندوق النقد الدولي فإنه من المتوقع أن تنخفض معدلات التضخم الكلية العالمية خلال عام 2024 لتصل إلى 5.8% والى 4.4% في 2025، وبالتالي فإنه من المتوقع أن تتجه البنوك المركزية إلى خفض معدلات الفائدة وفقا لاستجابة الاقتصادات الداخلية في كل دولة وانخراطها في الاقتصاد العالمي.
ونظرا لأن حجم الاقتصاد الأمريكي هو الأكبر عالميا بنصيب ٢٥%من الناتج الإجمالي العالمي ويليه اقتصاد الاتحاد الأوروبي ليأتي في المرتبة الثانية عالميا، إذ يستحوذ على حوالي ٢٢% من حجم الناتج الإجمالي العالمي، فمن المتوقع أن تنخفض قيمة العملة الأمريكية واليوروالأوروبي بصورة نظرية، كنتيجة اقتصادية لخفض معدلات الفائدة على تلك العملات. إلا أن انخفاض قيمة الدولار واليورو يؤثر عليه عوامل أخرى تتمثل في استحواذ الجانب الأمريكي والأوروبي على التجارة العالمية وبالتالي الطلب على عملتيهما سيظل مرتفع، مما يحد من انخفاض قيمتهما بدرجة كبيرة، إلا إذا استطاعت دول أخرى أن تكسر حاجز الهيمنة الأمريكية والأوروبية لتساهم بدرجة أكبر في خفض قيمتهما من خلال الاتفاقات التجارية الدولية وبخاصة اتفاق البريكس والذي يتحكم أعضائه في أكثر من 30% من الاقتصاد العالمي.
ونظراً للعلاقة العكسية بين الدولار الأمريكي والذهب، فانخفاض الدولار يعني ارتفاع الذهب، وارتفاع الدولار يقابله انخفاض لأسعار الذهب، فالارتباط بينهما سياسي وفقا لنظام المبادلة الذي أطلقته الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩٤٤ في إطار اتفاق بريتونوودز، ليصبح الذهب معيار تسعير الدولار، وعلى الرغم من فك هذا الترابط عام ١٩٧١ إلا أن العلاقة بينهما لازالت قائمة نظرا لهيمنة الاقتصاد الأمريكي عالميا، وبالتالي مع الانخفاض المتوقع في كل من الدولار واليورو خلال عام ٢٠٢٤ و٢٠٢٥ حتى وأن كان طفيفا، فأنه من المتوقع أن يرتفع الذهب في المقابل.
ومع انخفاض حدة الصعود في معدلات التضخم، واتباع البنوك المركزية موقفا أقل تقييدا، وما يتبعها من سياسات مالية متوائمة، سيعاد تشكيل الاقتصاد العالمي ما بين دول صمدت ودول أخرى جذبتها الدوامة الاقتصادية العالمية إلى القاع،لتبدأ مرحلة من النمو البطيء والتوجه التدريجي لخفض الديون والخروج للدول الصامدة من الدوامة الاقتصادية العالمية.