سيناء.. أطول سجل عسكري في التاريخ

23-4-2024 | 15:52

إذا كانت الجغرافيا التقليدية قد ظلت لآلاف السنين تذكرنا بأن سيناء "شبه جزيرة"، فإن التاريخ يلح علينا بأنها الأرض التي قاتلت لأجلها مصر منذ فجر التاريخ.. ومن بوابتها العالية صدرت السلام والتسامح والعلم والخير، واستقبلت الأنبياء والصحابة والصالحين.. ولأن سيناء "شبه الجزيرة" كانت مطمعًا للغزاة والاستعماريين كان لابد أن تتغير الجغرافيا، ففي مايو من عام ٢٠١٩ سجل التاريخ تغييرًا جذريًا لجغرافية سيناء، لتلتحم بالوادي.. لا بحر يفصلها، ولا قناة تعزلها، ولا جبال تخبئها. 

باتت سيناء مرتبطة بخمسة شرايين تجعل ما يجري في القلب من دماء يجري في سيناء، الجبال تلاحمت مع الوادي، البحران والنهر، ثلاثية الأضلاع المتكاملة، لا عائق مائيًا ولا ساتر رمليًا.. 

كان محمد علي أول من أدرك أن "شبه الجزيرة" تغري الأعداء؛ فأنشأ محافظة العريش عام ١٨١٠، ووضع تحت تصرف حاكمها قوة عسكرية تستطيع حماية الحدود، وقوة نظامية لحفظ النظام الداخلي، لكن هذا ظل غير كاف.. 

وكان الأيوبيون قبله قد فكروا في شيء من هذا القبيل؛ حيث اهتموا بتعمير سيناء ضمن استعداداتهم للحروب الصليبية، ومن ذلك قيام صلاح الدين الأيوبي بتعمير وإصلاح ميناء الطور عام ١١٨٤، وتجهيز المراكب وتشييد الميناء، حتى بدأت تصله السفن المحملة بالبضائع من اليمن، وترسل منه الغلال إلى الحجاز، بعدها انطلق صلاح الدين الأيوبي في التحكم الكامل بالبحر الأحمر خصوصًا بعد سيطرته على ميناء إيلات، فضلًا عن اهتمامه بالحصون والقلاع حتى لا يتكرر دخول سيناء من قبل الصليبيين، كما حدث عام ١١٨١ من اقتحام لأراضيها، وتقطيع نخيلها لصناعة المراكب، لكن خطة "رينالد شاتيون" فشلت في السيطرة على سيناء، ومن ثم البحر الأحمر بجهود صلاح الدين..


وهكذا باتت سيناء "شبه الجزيرة" سجلًا للخالدين، وتاريخًا كاشفًا عن قدرات الحكام على رؤية المخاطر القادمة للوطن، والتعامل معها. 

سيناء، كما يقول جمال حمدان، هي أخطر مدخل لمصر، وطريق الحرب، جسر إستراتيجي "عبرت عليه الجيوش منذ فجر التاريخ جيئة وذهابًا.. تحتمس الثالث وحده عبرها ١٧ مرة". 

ويوضح الراحل الفذ جمال حمدان هذه النقطة بشيء من الدقة والإعجاز في كتابه "سيناء في الإستراتيجية والسياسة والجغرافيا": ".. والواقع أنه إن تكن مصر ذات أطول تاريخ حضاري في العالم، فإن لسيناء أطول سجل عسكري معروف في التاريخ.."

كانت سيناء هي المبتدأ والخاتمة عند جمال عبدالناصر حتى قبل العدوان الثلاثي عام ١٩٥٦، والذي على أثره احتلت إسرائيل سيناء، لحمل عبدالناصر على التراجع عن قرار تأميم قناة السويس، بالتعاون والاتفاق مع فرنسا وبريطانيا.

خرجت إسرائيل من سيناء بقرار من مجلس الأمن، لكنها ظلت تتحين اللحظة حتى عادت واحتلها في عام ١٩٦٧، بات احتلال سيناء طعنة في قلب الوطن، وموت مؤجل لعبدالناصر، الذي ظل يقاوم بحرب استنزاف مشهودة حتى موته المعلن في عام ١٩٧٠. 

وبـ"سيناء" نال السادات شرف النصر، والتخلص من عار الهزيمة واسترداد الأرض، ومات في ذكرى النصر.

كانت سيناء "شبه الجزيرة" طريقًا طويلًا من الانتصارات والانكسارات والهزائم، والأنبياء والحالمين والطامعين والهاربين والمأجورين والمدسوسين، كانت سيناء مقابر رحيمة لشهداء تألموا لتبقى، ومقابر مستعرة للغزاة..

كانت "شبه جزيرة" حتى جاء عبدالفتاح السيسي حاكمًا لمصر فالتأم الوادي، والتحمت الخريطة.. ففي دقائق ندخل سيناء آمنين، ونعود منها بفرح المنتصر.. 

الأنفاق التي افتتحت قبل نحو عام، ليست مجرد طرق تسهل الحركة، وتسهم في التنمية، إنما هي إلغاء لحواجز الجغرافيا وموانع الطبيعة، إنها فك للشفرة، وحل للغز القديم، فلم تعد سيناء بكل وديانها وجبالها منطقة نائية، أو خارج السيطرة، أو يسهل احتلالها كما في العصور السابقة، أصبحت سيناء رسالة، بجغرافيتها الجديدة، للعالم كله أنها محصنة، وملتحمة بالوادي، ولم تعد كما كانت، ولن تعود لعزلة الجغرافيا وجراح التاريخ.

لن تكون إلا كما تراها في خريطة مصر، كذراعين في جسد واحد.. ذراعان يرتفعان إلى عنان السماء، أو كأصبعين في كف جندي منتصر، ومثلما كانت تمد مصر كلها، في زمن الفراعنة بما تحتاجه من المعادن، ومثلما استمدت اسمها من إله القمر، فستكون هي الضياء الذي يملأ الوطن بالخير.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
هل أخطأ شيخ المؤرخين؟

توقفت طويلاً أمام ما قاله المؤرخ الكبير الدكتور عاصم الدسوقي من أن نشأة إسرائيل جاءت نتيجة اندماج أو تحالف المهاجرين البروتستانت الإنجيليين ، أتباع مارتن

الإغلاق التام والموت الزؤام

يقولون إن الإغلاق التام هو الحل أمام اجتياح فيروس كورونا للعالم، ومع ذلك جاءت معلومات صادمة من جامعة هارفارد، حيث خلصت دراسة علمية لأربعة باحثين إلى أن "إغلاق المجتمع أسوأ ما يمكن فعله".

الشبكة التي تحكم العالم..

ليس أخطر على الإنسان من جهازه العصبي، ولا يمكن أن ينتصر المرء في معاركه الحياتية إلاّ إذا انتصر على جهازه العصبي أولًا، وها هو الخوف يحكم الكون كله، العالم

اتحاد أوروبا يمرض أم يموت؟

اتحاد أوروبا يمرض أم يموت؟

انتهاء عصر "العولمة"

دشن الرئيس الأمريكي - من حيث يدري أو لا يدري - لعصر جديد بتسمية الوباء العالمي باسم "وباء الصين"، تسمية مرت وكأنها مجرد مكايدة سياسية، لكنها تسمية كاشفة

وقت الشائعات.. (٣ - ٣)

وقت الشائعات.. (٣ - ٣)

وقت الشائعات (١ – ٣)

حين تشتد الأزمات في مجتمع ما يبحث الناس عن المعلومات، مثلما يبحثون عن السلع، وفي سبيل سعيهم للوصول إلى الحقيقة قد يقعون ضحايا للمعلومات المغلوطة والمضللة، والسلع الفاسدة والمضرة.