عندما يصفه صديق عمره نور الشريف - رحمهما الله - بأنه شخصية استثنائية، ويداعبه عادل إمام بأنه الشقيق الذي لم تلده الأم، ويرى فيه أحمد زكى أنه المواطن المثقف، ويحكى نور الشريف بدون خجل أنه عمل له كومبارس في يوم من الأيام، ساردًا قصة تعبر عن مدى نقاء صلاح السعدني، وهي أنه بعد سنوات من عملهما معًا في السينما صعد نجم نور الشريف، وأصبح هو الاسم الأول على الأفيش، وفي أثناء عرض أول فيلم من بطولته يكون السعدني أول المهنئين، بل يتولى "عزومة" عشاء من جيبه الخاص ليحتفي بصديقه النجم بعد أن كان كومبارس له.. عندما تجتمع تلك الآراء لتلخص "السعدني"، فأنها تعني بأنه كان بالفعل "استثنائيًا".
في الثمانينيات كان صلاح السعدني أحد أهم نجوم المرحلة، تجده في السينما مع يوسف شاهين في اليوم السادس 1986، ومع أشرف فهمي في "لعدم كفاية الأدلة"، وتجربة محمد النجار المهمة جدًا "زمن حاتم زهران" مع صديق عمره نور الشريف، وفي التليفزيون هو النجم الأكثر شهرة، حيث يقدم للبسطاء شخصية من لحم ودم وهي "العمدة" سليمان غانم في الجزء الأول من مسلسل "ليالي الحلمية"، والذي أصبح حديث العالم العربي كلهن، حيث لم تكن هناك إنتاجات عربية تفوق الإنتاج المصري، وتستمر السلسلة التي أسماها هو "الملحمة"، فتكون الزاد الدرامي الرمضاني يقدم الثاني منها في عام 1989، ولم يكن هناك حديث في الوسط الفني، أو العالم العربي سوى عن "ليالي الحلمية".
في تلك الأثناء بدأت علاقتي بالنجم صلاح السعدني، اللقاء الأول بمسرح مدرسة السعيدية بجوار جامعة القاهرة، حيث بروفات مسرحية "الدخان" إحدى روائع الكاتب الكبير ميخائيل رومان، والتي أخرجها للمسرح آنذاك المخرج المتميز مراد منير، والذي استمرت مسيرته مع السعدني طويلا حتى قدما "الملك هو الملك".
كنت محررًا في جريدة عربية، وذهبت للعم صلاح - هكذا ينادونه في المسرح - الخطى ثكلى، مترددًا في دخول المسرح؛ لأنها التجربة الأولى في الحوار، بعد سلسلة من التغطيات والتحقيقات عن الصائمين خارج بلادهم كنت أجريها من مدينة البعوث مع أفارقة وآسيويين، يدرسون في الأزهر.
سألت عن العم صلاح السعدني، تقدمني رجل الأمن، وفوجئت بما لم أكن أتوقعه، استقبال حافل من نجم كبير بصحفي مبتدئ، وكأنه يستقبل أحد كبار الصحفيين وأصبحت لهم أسماء رنانة، وطلب عامل البوفيه قبل أن يتحدث معي كلمة واحدة.
وطلب مني أن أجلس في الصف الأول أتابع ما يقدم على المسرح "الدخان".. غير ملابسه، وغير مرتديا ملابس شخص آخر لم نعرفه سوى من صوته عندما تحدث وهو على خشبة المسرح، هو يتحرك والفنانة سمية الألفي، وفايزة كمال يتحركان معه، فيما يسمونه "ميزانسيه".. ومراد منير المخرج الكبير يقف عند حافة خشبة المسرح يدير الحركة بتعليمات يصغي لها الجميع وتنفذ كما أراد.
"الدخان" كنت قد قرأت بعضًا عنها قبل أن أذهب إلى المسرح، لكن أن أشاهد هذا العملاق صلاح السعدني وهو يجسد شخصية "حمدي" المدمن فهي تدور حول (حمدي) الذي يعمل ليصرف على أمه وأخواته، فهو العائل الوحيد للعائلة، لكنه يبدأ في التدخين، لتظل السيجارة في يده طوال الوقت، حتى يصل إلى مرحلة الإدمان، والتي معها ينهار حيث يفقد عمله، ورغم كل ذلك تظل أمه تسانده وتستمر في التضحية عنه.
انتهت البروفات وبدأت جلسة التعارف، "سيبك من الحوار".. قالها وهو يبتسم، لم أدرك أنها محاولة منه ليجعل من الشاب الصعيدي الذي عرف من حكاياتي معه أنني من قرى محافظة أسيوط، فأراد أن يكسبني بعض الثقة، لمح في ارتعاشة اللغة التي أتكلم بها أن هناك توترًا، نجح في ساعات أن يحولني من صحفي مبتدئ لم يعين في جريدة رسمية، إلى صديق، فيقول لي بعبارة الفنان ابن البلد، "نخللي الحوار بعدين"، وأنا بصراحة كان كل همي الحوار آنذاك، عدت في اليوم الثاني، تكرر الرفض للحوار بشياكة، وجاء يوم العرض الجنرال، دعيت لمشاهدة العرض..
بعده سألني "إيه رأيك".. صمت لبرهة.. يعنى.. رأي .طبعًا شيء رائع وعظيم!!
وبدأنا الحوار الذي أصبح أول حوار في حياتي الصحفية مع نجم أعتز به، وأصبح بالنسبة لي هو أهم شخصية التقيتها في المدينة التي صدق فيها القول عندما جئتها: "إنها تبهر القرويين"، صحيح لم أحتضن الشرطي، لكنني احتضنت أنوارها، وأبهرتني كباقي أبناء الريف الذين لم ينزلوها من قبل سوى زيارات لأماكن معدودة.
رحل من علمنا أن الصحافة ليست حوارات وتحقيقات وأخبار ومقالات فقط، ولا هي "فهلوة".. بل أن تكون صادقًا مع مصادرك، ومع ما تكتب، وأن تقرأ قبل أن تكتب، وأن يصبح ما يقوله مصدرك أمانة!!