تمر الأيام والسنوات وتبقى الذكريات راسية بشواطئنا كسفن عملاقة، منها ما هو مبهج، ومنها ما هو مؤلم، منها ما كان حلمًا فأصبح حقيقة وتجسد، ومنها ما كان حقيقة تمنينا أن تفارقنا وأن تذهب، تدور بنا الأحداث وتجبرنا المواقف الحياتية المتشابهة على استحضار الماضي، والاستعانة به في بعض الأحيان، فنحلق فوق أبراجه العالية تارة، ونتسلل تحت أقبيته المظلمة تارة أخرى، نلملم شتات أنفسنا؛ ساعين للربط بين ما نعيشه الآن وبين ما مر بنا من قبل، نتدارس حيثياته بعناية، نقدم دلائلنا وننتظر الإشارة، فقد تأتي متشابهة هي الآخرى، أو ربما أنها ستتغير.
تلك هي البداية؛ عندما تجد شخصًا يتعامل معك بصلف وفظاظة دون أن يشعر بأدنى حرج، يصرخ بأعلى صوته في وجهك، يناطحك ويجادلك بكل صراحة من وجهة نظره، وبكل تهكم ووقاحة من وجهة نظرك، وعندما تبدي استهجانًا وضيقًا من أسلوبه المزعج وطريقته غير اللائقة وتفكر في الاعتراض على ذلك، تجده يبادرك بقوله: "أصل أنا صريح وقلبي أبيض" قاصدًا إحكام قبضته عليك فتصبح في لحظة كعصفور حبيس بين يديه لا تستطيع الإفلات، وأنت لا تدري ماذا قصد بحديثه معك؟ هل كان يريد تطييب خاطرك؟ أم أن وصفه لذاته أتاك ليضعك على رأس قائمة هؤلاء السيئين الذين تلونت قلوبهم بألوان أخرى؟
كثيرًا ما كنت أستمع لحديث جدتي عن هؤلاء الناس الذين مروا عليها في مشوار حياتها، كانت تردد قولها عند الحديث عنهم قائلة: "أنا مش بحب اللي قلبهم أبيض"، وتسهب في حديثها عن هؤلاء الذين يثورون ثورات عارمة لأتفه الأسباب، الذين يبالغون ويتمادون في ذلك معللين هذا بأنهم لا يدركون ما يقولونه أو يفعلونه عندما تستبد بهم لحظات الانفعال والغضب وبأنهم يسيئون لمحدثيهم دون قصد أو تعمد، كنت أستغرب حديثها وأتعجب منه، إلى أن كبرت وأدركت تمامًا أن القلوب مكونها الأساسي هو الإحساس بالآخرين قبل الذات، القلوب ليست قطعًا من قماش يمكن غسلها عقب كل موقف، ومحو ما علق بها من ألم أو إحباط؛ نحن نتحدث عن قلوب وليس عن لوحة ألوان بيد فنان تحمل فوقها العديد من الألوان.
ستلتقيهم مثلنا يومًا ما، ستتعامل معهم، وتستمع لضجيجهم، ستصطدم بضحالة تفكيرهم فهم فارغون، والفارغون أكثر ضجيجًا كما تعلم، ستجدهم وقد ارتسم العبوس عليهم وألقى بظله الكئيب على وجوههم، استعذب صحبتهم وشيد مملكته فوق جباههم، والويل لك إن تمردت عليهم ومللت طريقتهم أو أظهرت سأمًا لحديثهم، إن فكرت أن تقدم النصح لهم، ستجد سيلًا من التبريرات ينهال عليك في لحظة، دون اعتذار، فكلمات الاعتذار مبهمة عندهم، ثقيلة للغاية ولا تجري على ألسنتهم.
على هؤلاء أن يعلموا أن ردة أفعالنا ستأتيهم على قدر تعاملهم معنا، أما عن قلوبهم البيضاء التي يتحدثون عنها ويملأون الفضاء تشدقًا بصفائها، فهي لا تلزمنا، وإن أرادوا بنا خيرًا حقًا، فليرحلوا وليصحبوا قلوبهم معهم.