"أدركت أن زمنًا جديدًا من الدماء والنيران سيحيط بنا نحن اليهود، وأن بذور الشر التي ألقى بها بلفور في أرض فلسطين ستثمر أشواكًا ودمًا ودموعًا".. هذا ما قاله وزير يهودي في الحكومة التي أصدرت وعد بلفور عام 1917.
حين نشأت الحركة الصهيونية 1897، ومن قبلها جماعة عشاق صهيون 1882، بهدف تنظيم الهجرة إلى فلسطين، نشأت جماعات أخرى ترفض هذه الأفكار، ومنها حركة الاندماجيين، وكان من أبرز أعضائها إدوين صموئيل مونتاجو (1879 – 1924) المولود في لندن، عضو مجلس العموم عن حزب الأحرار البريطاني، ثم وزير شئون الهند في وزارة لويد جورج.
كان إدوين مناهضًا قويًا ومعارضًا شرسًا لأفكار الصهيونية، وقدم للحكومة البريطانية الكثير من المذكرات، وساق كل المبررات التي تحول دون صدور وعد بلفور، وكاد أن ينجح لولا أن اتفاقًا تم بين البريطانيين والفرنسيين والأمريكان دفع وعجل بصدور الوعد الذي وضعه إدوين في شهادته "ذلك الشر الذي بذرناه". كان إدوين يرى أن الصهيونية مرفوضة من قطاع كبير من اليهود. "نحن اليهود الاندماجيين نرفض الاعتراف بأن فلسطين مرتبطة باليهود أو مكانًا ملائمًا لكي يعيشوا فيه. حقًا إن فلسطين لعبت دورًا في التاريخ اليهودي، لكنها لعبت الدور نفسه بالنسبة للتاريخ المسيحي والإسلامي، والمعبد اليهودي موجود في فلسطين، وكذلك موعظة الجبل، والمسجد الأقصى".
وحين عرض إدوين أفكاره على موتفيور رئيس الجالية اليهودية في بريطانيا وافقه الرؤى وزاد عليه "أن اليهود خرجوا من الأحياء اليهودية لينتشروا في العالم الفسيح، ويجب ألا يعودوا إلى السجن ثانية داخل أي حدود جغرافية"، وذكر إدوين أنه في عام 1919 كان في بريطانيا أكثر من 300 ألف يهودي، ولا يؤيد الصهيونية منهم سوى 8 آلاف، وفي أمريكا وقتها كان يعيش 3 ملايين يهودي، ولم يعتنق الصهيونية سوى 12 ألفًا، وفي بقية أنحاء العالم كانت نسبة الصهاينة ضئيلة جدًا قياسًا بعدد اليهود.
وفي رأيه أن دعوة الصهيونية ستثير حساسيات بين اليهود وبين مواطنيهم، فالمواطن البريطاني لن ينظر بارتياح إلى المواطن اليهودي الذي يريد التخلص من وطنه ليذهب إلى أرض أخرى. وهاجم الاشتراكيون اليهود الفكرة معتبرين أنها تصرف اليهود عن نضالهم ضد الرأسماليين، فاليهود يُضطهدون في روسيا وغيرها بسبب الطغيان الفردي الرأسمالي. وفي فرنسا رفض اليهود الأفكار الصهيونية بشدة.
ويورد إدوين ما قاله له زعيم الجالية اليهودية في أمريكا يعقوب شبق: "لا يمكن أن أكون مخلصًا، وصهيونيًا في الوقت نفسه.
ومن داخل الحركة الصهيونية كان هناك معارضون أيضًا، ومنهم زعيم الجناح الثقافي للحركة آحاد هاعام (1856 – 1927) المولود في روسيا، وهو الذي قال لـ"حاييم وايزمان" في عام 1918 أثناء زيارتيهما لفلسطين: "لقد كان هرتزل يتصور أن فلسطين بلد لا شعب له، وكنت مثله أتخيل أنها مستنقعات.. لكن هنا شعب وحضارة، وأطفال وبرتقال، فإذا أخذناها وطردناهم، فنحن نرتكب ظلمًا كبيرًا، ألا ترى ذلك؟" لكن وايزمان لم يرد، كما يقول في مذكراته: "لكني قلت لنفسي يجب ألاّ أضعف أبدًا، لست المسئول عن مستقبل هؤلاء الفلسطينيين. فليجدوا مكانًا آخر، أو فليعودوا إلى الصحراء التي جاءوا منها".
وبالعودة إلى إدوين سنجد أنه طالب بسحب الجنسية البريطانية من أي يهودي ينضم إلى الحركة الصهيونية، وكان مندهشًا من أن زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا ليسوا بريطانيين، ومع هذا سمحت لهم الحكومة بأن ينشروا دعوتهم.
وطبعًا إذا عدنا للوراء قليلًا سنجد أن آرثر جيمس بلفور حين كان رئيسًا للحكومة البريطانية (1902 – 1905) قد أصدر قانونًا بمنع هجرة اليهود إلى بريطانيا، وكان معروفًا عنه عداؤه الشديد لليهود.
ومن هنا نجحت الصهيونية في استغلال المتناقضات والصراعات الدولية، فمن يكره اليهود يساعد الصهيونية على تهجيرهم، ومن يكره العرب يخلق لهم كيانًا لا يسمح لمنطقتهم بالاستقرار أو أن تتحول إلى قوة، كما قال بالمرستون وزير خارجية بريطانيا عام 1840: "ستكون فلسطين اليهودية سدًّا في وجه أي محاولات جديدة لإنشاء دولة عربية تضم مصر والشام، وتهدد مصالحنا من جديد"، وطبعًا كان يقصد دولة محمد علي.
وكان الوزير البريطاني هربرت صموئيل أكثر وضوحًا في مذكرة كتبها في مارس 1915 راسمًا مستقبل المنطقة كأنه يقسم كعكة صغيرة بسكين حاد، إذ قال: "ستنهار الإمبراطورية العثمانية، وعلينا أن نختار مستقبل فلسطين، فلدى فرنسا رغبة في ضم فلسطين للشام، وفي هذا تهديد للمصالح البريطانية، وهناك احتمال أن تعود فلسطين لتركيا، أو أن توضع تحت الحماية الأوروبية، وهذا خطر أيضًا؛ لأن الألمان سيجعلون من فلسطين محمية ألمانية، ولن يتبقى إلاَّ إعطاء فلسطين لليهود، على أن تكون تحت الحماية البريطانية في البداية"، وكان مارك سايكس قد اتفق مع الفرنسيين على منحهم فلسطين عندما عقد مع بيكو اتفاقية "سايكس – بيكو"، ثم بعدها بأشهر صاغ مع الصهاينة "وعد بفلور".
ولأن الاندماجيين لم يجدوا آذانًا تسمع، ولا عقولًا تفكر، تربعت الصهيونية، وحتى في منطقتنا العربية وجد الصهاينة من يستمع لهم، ومن يجلس معهم، بل ويوقع معهم أول اتفاقية تطبيع في التاريخ، وقبل إعلان قيام دولة إسرائيل.
ففي يناير 1919 وقع الأمير فيصل بن الحسين مع زعيم الصهيونية وايزمان اتفاقية تعهد فيها الأمير بأن يكون لفلسطين دستور يوفر كافة الضمانات لتنفيذ وعد بلفور، وبرر والده وهو في المنفى سبب توقيع ابنه بأنه كان وحيدًا في لندن، لكن من المهم الإشارة إلى أن الأمير التقى وايزمان قبل ذلك في أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان اللقاء في العقبة كما يقول وايزمان في كتابه "التجربة والخطأ".
نجحت الصهيونية فيما تراجعت الاندماجية حتى أن إدوين قال: "أشعر بأسى بالغ، فقد باءت جهودي بالفشل، فقد كان لويد جورج وبلفور يؤيدان الحركة الصهيونية، ورغم أنهما مسيحيان، وأنا يهودي أعرف الشعائر كما يعرفها حاخامات اليهود في كل العالم، وحين قال له بلفور: "وايزمان يقول إن اليهود مضطهدون، ولا ينبغي أن تتخلى بريطانيا عن أقلية مضطهدة..". قاطعه قائلاً: "ليس من حق وايزمان أن يتكلم باسم يهود بريطانيا، أو يتدخل في شئونها، لأنه ليس بريطانيًا، وليس من حقك أنت أن تزعم أن أمر اليهود يهمَّك أكثر مني.. كان هناك اضطهاد في روسيا القيصرية، لكن ذلك انتهى، وأعلنت الثورة الروسية أنها ستساوي بين أبناء كل الأديان والقوميات: وهنا نحن نتعلم في المدارس الحكومية ولنا دورنا في السياسة والجيش.. فلماذا يطلب منا وايزمان أن نذهب إلى أرض سنكون فيها أجانب؟ كيف تكون فلسطين وطننا القومي، وفيها مسلمون ومسيحيون ويهود، وهم أهلها منذ قرون، وماذا نفعل بالمقيمين هناك.. هل نطردهم ليحل محلهم يهود من روسيا وفرنسا.. إن ذلك لن يحل مشكلة اليهود، بل سيخلق مشكلة أخرى، وفلسطين بلد صغير، لن يستوعب سوى أكثر من ثلث يهود العالم، حتى لو طردوا كل من يقيم بها من أهلها، فماذا سيحدث لبقية اليهود؟ سيبقون في بلادهم وعليهم أن يختاروا إما أن يذهبوا إلى فلسطين ويعيشوا مع يهود آخرين غرباء عنهم، أو يظلون في بلادهم كضيوف غير مرغوب فيهم.." قال هذا وأكثر في مجلس الوزراء، بل إنه وجه كلامه مباشرة إلى رئيس الوزراء: "يا سيدي اللوردـ يوم تنشأ دولة يهودية على أرض فلسطين لن تعتبرني أنت بريطانيا..". وهنا يجب استحضار أسطورة الوعد الإلهي بإسرائيل الكبرى.. وطبعًا لم تتحمل الحكومة البريطانية أفكار إدوين فعزله لويد جورج.
وهكذا زرعت إسرائيل، لتكون كما قال جمال حمدان، جسمًا غريبًا ودخيلاً مفروضًا على الوجود العربي، أبدًا غير قابل للامتصاص، ولكنه حتى الآن غير ممكن اللفظ.. وبين هذا وذاك يبقى عنصر اضطراب، وبتعبير آخر يبقى بؤرة حرب كامنة ومفجر صدام استعماري.
[email protected]