إن قراءة المشهد الحالي من الأحداث، ليس مستبعدًا منها إدراك نية الكيان المحتل في توجيه دفة ما يسمونه ـزورًاـ صراعًا، نحو "حرب" بالمفهوم الكامل للكلمة، من توافر أطراف يتواجهون ويتقاتلون، فحتى هذه اللحظة وحتى كتابة هذه السطور، وبعد مرور أكثر من ستة أشهر من توجيه الأسلحة الفتاكة بأنواعها تجاه أبناء غزة، وما خلفته ممارسة الإبادة الجماعية من أكثر 33 ألف شهيد وأكثر من 75 ألف مصاب، واستمرار القصف والتدمير والقتل على مدار الساعة، أي الحرب من طرف مسلح تجاه مواطنين عُزل وأصحاب حق تاريخي ومصيري في الأرض، وعلى الرغم من أن الأوضاع الأخيرة بين الجانبين الإسرائيلي والأمريكي، دفعت واشنطن لطرح مقترح لوقف إطلاق النار على غزة، بسبب اضطراب موقف بايدن بالانتخابات الرئاسية، لكن تبدو في الأفق دوافع مستجدة وأخرى متراكمة، للدفع نحو توسيع نطاق الحرب في الشرق، ربما كان منها على المستوى النفسي، الهزائم النفسية المضادة للكيان من قبل أبناء غزة وأطفالها الذين يصرون على معانقة الحياة بشكل طبيعي، وقد عرفوا أقسى درجات الوحشية وهم يلملمون أشلاء ذويهم أو يستخرجون الجثث من تحت أنقاض منازلهم التي تهدمت، ومع كل ذلك مارسوا حياتهم وأقاموا شعائرهم وموائدهم البسيطة في شهر رمضان، بل إن الأطفال استطاعوا أن يستقبلوا عيد الفطر ببهجة وأمل وإقبال على الحياة، صنعوا ألعابهم من حطام الحرب، وجعلوا من جدران البنايات المائلة تجاه الأرض جراء القصف زلاجات يمرحون فوقها، وتبادل من بقي من الأهالي الزيارات فيما بينهم، وقالوا للموت ننتظرك ولكن بطريقتنا.
ولم تختلف المقاومة عن هذه الصورة التي كانت ضربة معنوية قاصمة للكيان المحتل، حتى أن ثلاثة من أبناء إسماعيل هنيّة، رئيس المكتب السياسي لحماس، قد تم استهدافهم بالصواريخ من قبل طائرة إسرائيلية أثناء توجههم برفقة أطفالهم لزيارة أقرباء لهم بمخيم الشاطئ للاجئين غربي غزة، وتطايرت أشلاء أجسادهم جميعًا، ليظهر بعدها هنية، في فيديو، أثناء تلقيه خبر استشهادهم، متماسكًا ويقول "الله يسهل عليهم، ويصرح بعدها بأن "دماء أبنائه وأحفاده الشهداء ليست أغلى من دماء أبناء الشعب الفلسطيني"، وإنه "يشكر الله على هذا الشرف الذي أكرمه به باستشهاد أبنائه الثلاثة وبعض الأحفاد"، لتكون هذه الواقعة ضربة في مقتل للكيان المحتل وأمريكا برعاية نتنياهو وبايدن المتواطئ على طول الخط، وقد كان أحد أهداف الحرب القذرة هو إحداث صدع وهوة كبيرة بين الفلسطينيين والمقاومة، التي تم الإعلان عن استهداف تصفيتها، غير أن الواقعة أوجدت درجة أكبر من الالتفاف حول المقاومة وتأييدها.
وحتى أمس الأول لم يكن من حديث في الأوساط المختلفة سوى أن حربًا وشيكة ومواجهة مرتقبة بين الكيان وإيران التي أعلنت واشنطن وأكدت توقعها، واستعدادها عبر وزارة الدفاع الأمريكية بدعم إسرائيل في ظل احتمالات شن إيران هجومًا ضد الكيان ردًا على غارة جوية على سفارة طهران في سوريا، بل إن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن تحدث هاتفيا مع نظيره الإسرائيلي يوآف جالانت مطمئنًا له، ومؤكدا هذا الدعم الراسخ في مواجهة ما أسماه التهديدات المتزايدة من إيران ووكلائها الإقليميين، وأن إسرائيل عليها الاعتماد على هذا الدعم الكامل لها ضد الهجمات الإيرانية، وأكد جالانت أن أمريكا وحلفاء آخرين قد زودا الكيان بقدرات جديدة لمواجهة أي هجوم، وأنهم قد عززوا منظومتي الدفاع الجوي والهجوم. وكان الحرس الثوري الإيراني قد احتجز سفينة شحن مرتبطة بإسرائيل بمضيق هرمز بعد تهديد سابق من طهران بإغلاق المضيق أمام حركة السفن، في سياق توعد إيران بالرد على الضربات الجوية التي استهدفت قنصليتها في دمشق، والذي أدى إلى مقتل سبعة من ضباط الحرس الثوري بينهم اثنان من كبار العسكريين أحدهما محمد رضا زاهدي قائد فيلق القدس والذراع الخارجية للحرس الثوري، وتوقع بايدن أن الهجوم الإيراني سيكون "عاجلا وليس آجلا"، ووسط التوترات قطع عطلته عائدًا إلى البيت الأبيض بسبب التصعيد في الشرق الأوسط، وداخل إسرائيل تم حظر الأنشطة الطلابية وتقييد التجمعات ترتيبًا على التقديرات بشن هجمات إيرانية مرتقبة، اتخذت حيالها إجراءات موازية مثل إعلان الأردن إغلاق أجوائه أمام جميع رحلات الطيران القادمة والمغادرة والعابرة للأجواء، ومن قبل ذلك نصحت دول مثل الهند وفرنسا رعاياها بعدم السفر إلى إيران وإسرائيل.
وربما قرأ البعض أن فكرة المواجهة والحرب الصريحة مستبعدة من الجانب الإسرائيلي وربما من واشنطن كذلك وإن أبدت غير ذلك، خصوصًا وقد باتت الضربات الإيرانية غير المباشرة أو التي تُوجه من أماكن نفوذ مختلفة ووكلاء، باتت مؤرقة للكيان المحتل الذي يسعى إلى فرصة سانحة لغلق هذا الباب الذي تأتي منه الرياح تباعًا، سواء من حزب الله في لبنان، أو عبر الحوثيين في اليمن، فضلًا عن الضغوط الداخلية المستمرة والتظاهرات الحاشدة ضد نتنياهو المطالبة باستقالته، وتأكيد العائلات بأنه لولاه لكانت فرصة التوصل إلى صفقة تبادل أكبر للأسرى، مطالبين بفحص أهليته للبقاء بمنصبه على ضوء هذا الملف الذي أبدت فيه حماس مرونة كبيرة بتأكيدهم الاستعداد لإبرام صفقة تبادل أسرى جادة وحقيقية، مع المطالبة بوقف دائم للنار وانسحاب الجيش من كامل قطاع غزة، وكذلك عودة النازحين إلى مناطقهم، والعمل على تكثيف دخول المساعدات والإغاثة والبدء بالإعمار. ولأن الكيان وداعميه يستشعرون بعد إحراج الرأي العام العالمي والضغوط الشعبية والمعارضة، وخسارة النسبة الأكبر من المؤيدين بل والمصالح، أن خطوةً مثل هذه تُعد تراجعًا كبيرًا في خطة تمكين إسرائيل التي استُنزفت بها المقدرات والشهداء في الجانب الفلسطيني، ومُنيت واشنطن وتل أبيب بخسائر فادحة سياسيًا واقتصاديًا، فقد تطلب ذلك بحثًا عن مخرج مؤقت، خصوصًا لرئيس وزراء الكيان الذي قارب على استنفاد جميع الفرص أمام مساءلته وعزله، وربما التصعيد لمحاكمته كمجرم حرب، وقبل ذلك في قضايا الفساد التي تطارده.
وبعد أن أكد محللون بأن الحوار قائم بين طهران وتل أبيب من خلال أمريكا، تساءل الرأي العام والمتابعون عن مدى امتثال إيران للاستفزازات ومحاولات جرها لمواجهة حرب مباشرة مع الكيان المدعوم أمريكيًا، لتوجه ضرباتها من داخل إيران إلى داخل العمق الإسرائيلي، وهو ما بدا أنه رغبة إسرائيلية، بالتلويح بتهديدات من قبل جعل طهران في صورة "قبل وبعد" مثل غزة، وكذلك التهديد باستخدام قنابل كهرومغناطيسية تعيد إيران للعصر الحجري، أم أنها ستتفادى تلك الحرب وتكتفي بعملياتها الموجهة من الأذرع، مع توجيه ضربات من خلال طائرات من دون طيار، مع الاقتناع بإرباك الداخل الإسرائيلي الذي أغلق مجاله الجوي وأوقف الأنشطة والدراسة، وبقي على وضعية اتخاذ التدابير وانتظار هجمة في الأفق قد لا تأتي؟
وقبل فجر أمس تواترت الأخبار ببدء الهجوم الإيراني بالطائرات المسيرة، وعبور المئات منها منطلقة من العراق واليمن وإيران نفسها، لتصل في غضون ساعتين إلى الأجواء الإسرائيلية، وكذلك صواريخ كروز والباليستية وكاتيوشا، وتزداد وتيرة التوتر وتقدم دول مجاورة على إغلاق مجالها الجوي، وتدخل بريطانيا على الخط مؤكدة التصدي مع أمريكا لأي هجمات على إسرائيل مطالبة إيران بضبط النفس، وفيما أكد جيش الكيان بأنه تم التصدي لـ 99٪ من مئات المسيرات والصواريخ، وأن نحو 170 مسيرة وأكثر من 30 صاروخ كروز أُطلقت من إيران لم يخترق أي منها المجال، فضلا عن الصواريخ التي أطلقت من اليمن والعراق والجنوب اللبناني، واعترضتها القوات الأمريكية، بما لم يكن ذا تأثير مباشر بحسب تقديرات واشنطن وتل أبيب، يؤكد الحرس الثوري أن الصواريخ والمُسيرات اخترقت الخطوط الدفاعية الإسرائيلية، وأن خسائر إسرائيل في هذا الهجوم قد بلغت نحو 100 مليون دولار، وأن إيران على استعداد بهجوم أكبر إذا تم استهداف مصالحها في أي مكان، لكن المشهد التالي لهذه الليلة يعطي قراءات ليست جديدة، إذ تم فتح المجالات الجوية التي أغلقت وكذلك في مطار بن جوريون، ليذهب البعض إلى القول بأنه تمخض الجبل فولد فأرًا، حيث عاد الكيان إلى مراوغته مع المقاومة المباشرة، ليشير إلى أن حماس رفضت مقترح الهدنة، وسوف يواصلون تحقيق أهدافهم، وحديث حول ضرورة الرد بتوجيه هجوم ساحق نحو طهران، وبالتوازي عُقد لقاء افتراضي لقادة مجموعة الـ 7 لمناقشة تداعيات الهجوم الإيراني فهل تشهد المنطقة تصعيدًا حقيقيًا، أم أن حرب الليلة قبل الماضية كانت استراحة من الحرب؟