ستواجه نفسك يومًا ما بردائها الفضفاض الجديد، سترى صورتك البراقة والمنعكسة على مرآة أيامك تتلألأ في ليلك الحالك، كما هي في نهارك، ستأخذ قرارك بالتوجه والتجول بين سراديب عقلك الذي احتفظ بكل هذا الكم من الذكريات والأسرار بعد مرور كل تلك السنين، ستقرر السير في مجاهلها وتبادر بمواجهتها بكل ثبات ويقين، ستصنع نموذجًا آخر لذاتك، نموذجًا خاصًا بك وحدك، وستخرج إنسانًا آخر مختلفًا عن هذا الذي عرفته، توحدت معه وعايشته كل تلك السنوات والعقود.
ستعود بفكر رشيد، بنفس هادئة أتقنت تطبيق سلوك التروي والتمهل في الحكم على أغلب الأشخاص والأمور، نفس تجيد تطبيق نظرية المعاملة بالمثل والمناقشة على قدر العقول باحتراف، ستكسو ملامح وجهك المشرق ابتسامة أكثر إشراقًا تعاونك على تخطي كل صعب وكل مستحيل، ستخرج من بين معارك الحياة في كل مرة منتصرًا ستتخطى وكأن شيئًا لم يكن، علمتك الحياة أقوى دروسها وانتقت لك أغلى نصائحها، وضعتها بين يديك وهى تردد قائلة: "اللا مبالاة يا صديقي هي الحل الوحيد والأخير".
ستجد نفسك قد تغيرت تمامًا، لم تعد كما كانت بالأمس تتمزق من أجل من يريدون الاستيلاء على رصيدك من رهافة حس ونبل شعور، ستتوقف دون روية عن الهرولة وراءهم راجيًا أن تنال بكلماتك وأفعالك رضاهم، ستتعلم ألا تعود لمشاطرتهم أحزانهم وقصصهم المفبركة، ستتفوق على ذاتك إن تمكنت من ترويضها وتدريبها على ممارسة فن التجاهل ومهارات التمرير.
إنك استطعت إقناع نفسك بضرورة التعامل بما يتناسب مع ما تحياه وما تراه، أراك توقفت عن إحصاء عدد مرات إخفاقك، وقمت بتعديل خطط قوانينك وتشريعاتك الخاصة بطريقة تعاملك مع الآخرين، امتنعت عن مجالسهم في حلبة صراع أعدوها لكي يقتلوك فيها جدلًا، برعت في قراءتهم صمتًا وجهرًا، من اللافت للنظر أيضًا أنك توقفت عن مراعاتك لردود أفعالهم بعد أن أدركت أنهم من استحلوا ظلمك، أيدوه وناصروه.
كبرنا ونضجنا، مرت علينا صنوف الألم بأقنعتها ذات الألف وجه، أدركنا في النهاية أن إرضاء الناس غاية لا تدرك حقًا، وعلمنا أن التجاوز جائز لمن يمتلك قلبًا لا يجيد ألعاب الخداع، ولا يتقن نسج الأوهام وصناعة الحوارات المضللة، وإلقاء شكاوى كاذبة وحكايات مزعومة؛ ليطرحها بين الحين والآخر على أصفياء القلوب والصادقين.