كم كان حظي وافرًا، بأن أكون هذا الإنسان، الذي أخذه الشوق إلى لا منتهى، فكوفئ بأكثر مما اشتهى، وبحسن الظن بالله الذي هو زادنا ووقودنا في الحياة، وبهذا السر المعلوم باليقين، أدعو وأردد "آمين"، ومطمئنًا إلى قوله تعالى "فإني قريب".. فسبحانه وتعالى الذي أجاب دعائي، وأفاض عليَ بكرمه وهدهد فؤادي بالقرب، وما أبهى القرب من الحبيب.
نعم ما أبهى القرب من الحبيب عليه صلوات الله وسلامه وبركاته، هادي الأمة وشفيعها، ولأن لنا نصيبًا من رزق السماء في الحب والنعماء، جاء من المنح والرضا ما جاء، فاقتربنا و"كلُّ القُلوبِ إلىَ الحبيبِ تَمِيْلُ.. وَمعَيِ بِهـَذَا شـَـاهدٌ وَدَلِيِــــلُ، أَمَّا الــدَّلِيِلُ إذَا ذَكرتَ محمدا.. فَتَرَى دُمُوعَ العَارِفِيْنَ تسيلُ". وكانت الرحلة العظيمة بعد أداء العمرة من مكة المكرمة إلى المدينة، أكثر من مِئةٍ وخمسين كيلو، قطعتها السيارة في نحو ست ساعاتٍ، في رحلةٍ دخلتُ فيها إلى مجال الحُلم، رغم أنني في الواقع، وأتخيل كيف أن هذا الطريق الممهد الآن، وتقطعه المركبات التي من حديد، كان مسارًا وعرًا وطويلًا في وقت لم تكن فيه وسائل تنقل إلا النوق والأقدام، في رحلة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ورفاقه، بين الجبال والوديان الوعرة، لييتم إبلاغ رسالته الأعظم، وتكتمل الدعوة بعد المشاق، ويتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. أفكر وأتخيل ودون إرادةٍ أبكي، بكاء الفرح والسرور والامتنان لله الواحد الأحد الفرد الصمد، الكريم كرمًا لا يوازيه أو يدانيه كرم، الذي منّ علينا أنا وزوجتي وولدي الحسين والحسن، ومعنا جمعٌ غفير من الخلائق بهذا الوصل وهذه الزيارة، فأي منزلة في الأرض من بعد مكة سوى المدينة، بفضل الله وكرمه وعطائه الواسع بلغناها، فبلغنا السكينة والطمأنينة.
إنها الطمأنينة التي جعلت في القلب صفوًا يتسع للعالم أجمع، صفوًا جعل وفي الروح سماحةً وترفعًا عن كل شيءٍ سوى الاندماج في اللحظة وتشرب النفس بكل النفحات المهداة، إنها المدينة المنورة، الهادئة المبهرة، التي تاقت إلى نورها ونسيمها الخلائق في جميع أصقاع الأرض، يستشعرون هواءها العليل، ويلتمسون نفحاتٍ من الجنة، من أثر النبي الجميل الذي هاجر إليها دونًا عن سائر البقاع، قاصدًا الأمان، وهي المدينة التي خصها الله وأهلها بالكثير، فنزل فيها كثير من القرآن، أي أن جبريل عليه السلام قد تنزل فيها على المصطفى، بين عباد الله الذين اصطفى، المهاجرين، والأنصار، أنصار الرسول وصحبه وآله والمؤمنين، وفيهم وكذلك التابعون لهم بإحسان، وممن جاء فيهم قوله تعالى: "والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون"، نعم إنهم الأنصار الذين آثروا على أنفسهم، فاقتسموا مع إخوانهم من المؤمنين ديارهم وزادهم ومُلكهم، فالملك لله الواحد القهار، الذي أنعم علينا بالليل والنهار، وعلى الرغم من أنها لم تكن الزيارة الأولى، وأرجو ألا تكون الأخير، إلا أن إحساس الهيبة وغمرة الفرح للفؤاد ملأتني، ومثل طفل صغير أهلَّ عليه العيد، بمجرد أن وصلت إلى مكان الإقامة، عدوتُ مع أبنائي وزوجتي، ساعيا بكل خفةٍ ورجفةٍ وهيبةٍ إلى مسجد الحبيب الهادي البشير، أبتهج فأدمع مجددًا، مصدقًا وعد الله وموقنا بكرمه وعطائه، سبحانه الذي أجرى ذكره في قلبي وعلى لساني، وما بين الامتنان والرجاء والأمل، وتذكر وصايا من طلبوا الدعاء لهم و"ألا بذكر الله تطمئن القلوب"، رحت ألقًي السلام على حامل لواء السلام والإسلام، محمد بن عبد الله النبي الأمي الطاهر الزكي، المُرسل رحمةً للعالمين، أبلغه سلامَ الأحبة جميعًا، أمي الحبيبة داعيًا لها بالرحمة والمغفرة وفسيح الجنان، وأبنائي وزوجتي داعيا لهم برضا المولى عليهم والأمان، وذوي القربى والأصدقاء والناس جميعا داعيا لي ولهم بأن نكون في رحاب الرحمن، إلى يوم الدين.
جئنا والتقت الوجوه المُحبة من مشارق الأرض ومغاربها، تواقين إلى صفاء النفوس في المدينة التي رفع الله شأنها وذكرها بين المسلمين المؤمنين الصالحين الطيبين، فصارت منارة تلجأ إليها القلوب، ولما كان الإيذان بالذهاب إلى الروضة الشريفة، زادت نبضات الهيبة والخشوع وبكاء الفرح، وهممت آخذ بيد ولديّ الصغيرين اللذين يخوضان تجربة العمرة وزيارة النبي لأول مرةٍ في حياتِهما، ليملأني الامتنان والرضا بهذه المحبة وهذا المنح العظيم من الله سبحانه وتعالى، إذ أنها بالنسبة لهما تجربة ستظل باقية في نفسيهما طوال حياتهما، وما أجمل أن يبقى من آثار رحلة الحياة مثل هذا الأثر العظيم، وأقول يا ولديّ الحبيبين، إنها الروضة الحبيبة الشريفة، ألا تعرفانها، وحين بلغنا منبر الرسول الكريم، صلينا ولا أزال في حالٍ آخر متخيلا موضع رسول الله هنا، يخطب في أمته ومتخيلًا أنه يؤمنا في الصلاة، ولا تزال دموع الفرحة الكبرى تملأ عيني وروحي المبتهجة الخاشعة، وأتذكر قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي خير من ألف صلاة مما سواه إلا المسجد الحرام"، وأقول لأبنائي هنا قبر الحبيب محمد، صلوا عليه وسلموا تسليما، فألقي السلام من شغاف قلبي على الحبيب الذي بين مسجده قبسٌ وافرٌ من جنة الخالق البارئ، إذ يقول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة"، وأصبحنا داخل الروضة، فانشرحت صدورنا وهدأت أسرارنا ودعونا دعاءنا، بصلاح الأحوال، وصفو البال، وما بين الرجاء والخشوع والدعاء الذي ألهمنا به الله سبحانه وأجراه على ألسنتنا، نصلي راكعين وساجدين وداعين للأحباب جميعًا، وبنصر الله لبلادنا وأوطاننا وأمتنا، وشاكرين نعمة الله علينا الذي أكرمنا بدعوته، فآنسنا بيته وآنستنا المدينة بحبيبنا وحبيبها، وبأُنسها وناسها وعبيرها، نبتهج فيها ونبكي لفراقها، راجين المولى بعودة، نظنها مُجابة باليقين، وإحسان الظن بربِ العالمين، إلى يوم الدين، دعوناه وندعوه بالعفو والعافية، وأن يصلح قوبنا، ويعافي أجسادنا، ويشفي أسقامنا، ويُبرئنا من عِلاتنا، ويبارك في أبنائنا وأوقاتنا وأقواتنا وبيوتنا، نتوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ونسأله سؤال المضطرين، ليُجريَّن علينا فيما بقي من أعمارنا من الخيرات، ونرجوه بالثقة واليقين بعودة وزيارة لا تنقطع بإذن الله.