بين جبال أفغانستان الشاهقة يختبئ مقاتلو تنظيم "داعش خراسان" الذى أعلن مسئوليته الشهر الماضي عن العملية الإرهابية التي استهدفت مركزًا للتسويق قرب العاصمة الروسية موسكو، وقتل فيها ١٤٣ شخصًا بخلاف عشرات المصابين، وقد أصبح يشكل هاجسًا لأوروبا حاليًا خشية إقدامه على تنفيذ هجمات في القارة مع قرب استضافة فرنسا الألعاب الأولمبية صيف ٢٠٢٤، حيث استنفرت كل قواها الأمنية والمخابراتية لدرء أي خطر يأتي من جهته.
تحول "داعش خراسان" إلى "وحش" مخيف يقض مضاجع الغرب، بعدما كان خطره ينحصر إلى حد بعيد داخل أفغانستان ومحيطها، حيث يتصارع على السلطة مع حركة "طالبان"، التي تتشارك مع هذه الجماعة التكفيرية في العديد من الخصائص والاعتقادات الظلامية، فهما وجهان لعملة واحدة، وما يفرق بينهما ليس بالكثير، لكن هكذا تسير الأمور، عندما يكون التنافس على مقعد الحكم وصولجانه وأضوائه، فالدين لديهما ما هو إلا وسيلة للوصول إليه، ويجيدان تسويق بضاعتهما الفاسدة وسط جحافل المغيبين والجهلاء ومدمني المغامرات وأعمال المرتزقة.
تبدي أوروبا مخاوفها وهواجسها مما قد يقدم عليه "داعش خراسان" خلال الفترة المقبلة، لكنها تتجاهل تمامًا وتغض الطرف عن الحديث عن المسئول الحقيقي عن إطلاق "داعش" وأقرانه من منتخب المتطرفين والإرهابيين من عقاله، والتسبب في توحشه وانقلابه على صانعيه ومهندسيه من أجهزة المخابرات الأمريكية والغربية؟
فكل ما سيصدر عن الأوروبيين قطعًا سيدينهم ويكشف المستور أمام ناخبيهم، لأنهم يعلمون طبيعة الأدوار التي لعبوها لتقوية شوكة تنظيمات مثل "داعش" الذي استطاع ابتلاع جماعات أقل شأنًا وعددًا، وأعلنت مبايعتها له ودارت في فلكه، وذلك ضمن محاولاتهم للسيطرة والاستحواذ على مناطق النفوذ، وصراعاتهم مع القوى الكبرى ومع بعضهم البعض، والتخلص من قيادات ومسئولين يقفون حجر عثرة أمام مصالحهم.
وتذكروا مَن كان راعيًا وموجهًا لتنظيم "القاعدة" الإرهابي من البدايات وغيره من الجماعات التي تطلق على نفسها "جهادية"؟ أليس المخابرات المركزية الأمريكية "سي آي إيه" هي من استغلته كمخلب قط شرس لمحاربة منافسهم الأكبر حينئذ الاتحاد السوفيتي، وزودت زعيمه أسامة بن لادن وشركاءه بالعتاد والسلاح والأموال المتدفقة بلا حساب، وبعدها تبدلت الأشياء والوجوه وانقلب السحر على الساحر، حيث تحولت "القاعدة" إلى آلة تفريخ لعدد وفير من الإرهابيين الذين قرروا قتال وملاحقة أمريكا في عقر دارها في الحادي عشر من سبتمبر، لتكبيدها خسائر فادحة، ومارسوا معها لعبة القط والفأر في أجزاء أخرى من العالم.
إن "داعش" بمختلف مسمياته وما يصفه بولاياته في أرجاء المعمورة ليس سوى النسخة الحديثة من "القاعدة"، لكن بإضافات وبهارات أكثر بحكم التطور الزمني والتكنولوجي وأساليب استقطاب وتجنيد الأتباع والمتعاطفين، وعناصره قتلة مأجورون على أهبة الاستعداد لتقديم خدماتهم الشيطانية لمَن يقدر على دفع ثمنها، ولذا فإن غالبيتهم جاهزون للتعاون مع أي جهاز مخابرات، أو أي طرف آخر، ما دامت جيوبه مليئة بالمال من العملات الصعبة، ولا يفرق معهم جنسياتهم ودياناتهم، حتى لو كانوا من عتاة الملاحدة ومناهضي الدين في المطلق.
فبضاعة "داعش" الشريرة إن تمعنت فيها مليًا وبتركيز، ستجد خلفها عبارة "صنع في الغرب" مكتوبة، والغريب أن الصانع يشكو مما أنتجته يداه، وما يسببه له من فوضى عارمة، وقلاقل، واضطرابات تستهدف جبهته الداخلية، غير أن شكواه متأخرة جدًا ولن تجديه ولن تعفيه من القلق المزمن، والتحسب مما سيتعرض له، وحجمه، وخسائره الآنية واللاحقة، فقد انطلق الوحش حرًا ومتمردًا في البرية الشاسعة، ولن يعود إلى أحضان مدربه وطاعته ثانية.