نكون قدمنا فعلا إيجابيًا واحدًا إذا اتخذنا قرارًا عربيًا جماعيًا بتجريم نكران الإبادة الجماعية في غزة، وأن يكون القرار على مستوى القمة العربية المقرر عقدها الشهر المقبل في المنامة، وأن تكون له آليات تنفيذية، وأن يتم غرس القضية بين النشء، من دروس في مراحل التعليم المختلفة، وتنسيق ومتابعة من وزارات الخارجية، ومؤسسات المجتمع المدني من مجالس متخصصة ونقابات، لابد من تجريم إنكار الإبادة في غزة وملاحقة منكريها حتى في أحلامهم وكتاباتهم سواء عرب أو أجانب.
أقول ذلك لأن إسرائيل وأذرعها الإعلامية الجاهزة في الغرب والمتبجحة في الداخل الإسرائيلي أنكرت الإبادة منذ نظر محكمة العدل الدولية قضية الإبادة التي حركتها حكومة جنوب إفريقيا.
وكأن الملف قد أغلق، بينما صنوف الإبادة تشعبت وتعاظمت في الأيام الأخيرة، ومازالت تعدنا بالمزيد في رفح وفي كل مكان في الأراضي المحتلة.
بينما يرد رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيامين نيتانياهو على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي أكد ضرورة محاكمة إسرائيل على جرائم الحرب في غزة، ورد نيتانياهو بأن إسرائيل تحترم قواعد الحرب، هذا الرد سوف يستمر ويعاد إنتاجه بواسطة الآلة الإعلامية الإسرائيلية حتى ولو غادر نيتانياهو المشهد كله، إسرائيل تطبق قوانين الحرب، وإسرائيل كانت فقط تدافع عن نفسها ولم تفعل أكثر من ذلك!!
ولنستفد من قراءة سريعة لملف المحرقة ومطاردة منكريها، وإلى تهمة معاداة السامية ومرتكبيها لنأخذ فكرة عن الإمكانيات الهائلة للاتفاق على مسألة تجريم "إنكار الإبادة".
الإبادة وقعت حقيقة نعم، وأكثر من 30 ألف من المدنيين معظمهم من الأطفال قتلوا.. ما تفاصيلها.. تدمير المنازل والمستشفيات والمخابز وقصف الهاربين من الجحيم إلى مناطق وشوارع حددها الاحتلال الإسرائيلي سلفا، ثم اصطيادهم في الطريق.. حصار جائر جعل كسرة الخبز حلمًا مغرقًا في الخيال.
هل هناك وقائع محددة.. فلسطينيون سقطوا قتلى وجرحى إذ يتجمعون حول قافلة مساعدات فيتم قصفهم بالقذائف الصاروخية.. جعل الحياة مستحيلة في غزة ليُجبر سكانها على التهجير القسري بعد الهجرة الداخلية المحفوفة بالقتل والترويع.. حشر الفلسطينيين العزل في مساحة صغيرة جنوب القطاع في رفح في خيام غير مجهزة وتحت الأمطار الغزيرة والرياح والجوع..
هل تأكد الأمر من جهات مستقلة.. ذكرت الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وقادة الاتحاد الأوروبي الكثير.. هل كانت محكمة العدل الدولية شاهدة.. لكنها كالشاهد العاجز..
إن إسرائيل دمرت علماء وصحفيين أنكروا المحرقة، أو ضبطتهم بمعاداة السامية أو ألقت عليهم الاتهامات جزافًا من دون أن يرتكبوها.. وهي لا تمزح في هذه المسألة كحكومة وكأفراد.. وأخيرًا كان الملياردير الأمريكي كينيث جريفين قد علق في نهاية يناير الماضي تمويله السخي لجامعة هارفارد الأمريكية العريقة متهمًا إياها بمعاداة السامية.
وكانت القصة الحقيقية وراء ذلك رئيسة الجامعة كلودين جاي التي تلقت اتهامات بمعاداة السامية وُدفعت إلى الاستقالة. ماذا فعلت.. وصفت المظاهرات في الجامعة ضد حرب إسرائيل في غزة بأنها تندرج في نطاق "حرية التعبير".
وقام اللوبي الصهيوني بما يلزم، مطاردات واتهامات بأنها لم تدن ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر بشكل كاف.
نحن في سنة انتخابات في أمريكا وهذه السنة في القاموس السياسي الأمريكي هي ملعب اللوبي الصهيوني بمنظماته المتعددة وليس فقط لجنة الشئون العامة الأمريكية الإسرائيلية "إيباك".
وقبل أيام بدأت منظمة ZOA الصهيونية الأمريكية التحرك بقوة ضد ثمانية ديمقراطيين من أعضاء مجلس الشيوخ واتهمتهم بكراهية اليهود، وكان الأعضاء الثمانية قد كتبوا رسالة مشتركة إلى الرئيس جو بادين تدين إسرائيل وعدوانها على غزة، وما نتج عنه من مآسٍ إنسانية وصلت إلى حد انتشار المجاعة في بعض مناطقها. وطالب الأعضاء الرئيس بايدن بتوجيه إنذار نهائي لإسرائيل بتوسيع نطاق دخول المساعدات إلى غزة أو فقدان المساعدات العسكرية الأمريكية.
المنظمة الصهيونية اعتبرت رسالة الأعضاء "مخزية" و"مؤيدة" لحركة حماس، والباقي سيأتي وقد يكون أعظم، فقد لا نراهم في مجلس الشيوخ مجددًا. أما تبرير المنظمة فهو أن وقف الحرب خشية موت مدنيين يعد انتصارًا لحماس، وأن إسرائيل هي صاحبة فكرة الممر البحري وهي التي وافقت على الإنزال الجوي للمساعدات.
وعندما لام الرئيس بايدن إسرائيل على تماديها في العدوان على غزة قالت المنظمة إن "بايدن تخطى حدوده لأن إسرائيل تتبع القانون الإنساني بدقة". أما الصحف الأمريكية، مثل وول ستريت جورنال، فإنها تتهم الديمقراطيين بأنهم يريدون أن يجعلوا من نيتانياهو "كبش فداء" لاسترضاء اليسار الأمريكي المناهض لإسرائيل.
أكاد أقول إن خطط إفلات نيتانياهو من العقاب معدة من الآن، ولكن رغم كل هذه الخطط التمهيدية فإن واجبنا كدول عربية أن نواصل تأكيد الإبادة في غزة، وأن نرفض إنكارها وأن نجمع شواهدها ووثائقها، وأن نقيم لها مركزًا أو مكتبًا دائمًا في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وأن نتابع مرتكبيها في كل مكان وزمان.
تحية لأرواح الشهداء من سكان غزة وتقديرًا لتضحياتهم وضمانًا لتخليد ذكراهم.