بكين- فارق شاسع ومدهش بين ما رأيته عام 1999 كزائر للصين، من مظاهر للنهضة الاجتماعية والاقتصادية، في أثناء حضوري لمراسم احتفالها بمرور 50 عامًا على تأسيس الجمهورية، اليوبيل الذهبي، وبين ما أراه-اليوم- على أرض الواقع، وبكين تستعد للاحتفال باليوبيل الماسي (75 عامًا)، في هذه السنة، 2024.
أكتب هذه الخواطر من إحدى حدائق العاصمة، بمنطقة الأعمال المركزية CBD، هي حديقة بكين المركزية، التي من المخطط أن يرى المصريون مثيلًا لها بالعاصمة الإدارية الجديدة، وتقوم أحدى شركات المقاولات الصينية بالتخطيط والمساعدة.
الحديقة ليست هي الأكبر بالعاصمة، ومنشأة حديثًا بمساحة 320 ألف متر مربع، وتقع بالقرب من ملعب عش الطائر، الذي شهد أولمبياد عام 2008، وتكتسب أهميتها من كونها متنفسًا لقضاء أوقات الراحة للعاملين بمنطقة الأعمال المركزية، وتستقطب الأطفال والكبار للتمتع بطرقاتها الممهدة وبحيراتها وأشجارها المزهرة.
أهم ما يميز جمهورية الصين الشعبية، وهي تتهيأ للاحتفال باليوبيل الماسي، هو الاهتمام القوي والفعال بمعيشة الشعب، حيث ازداد معدل نصيب الفرد من الدخل القابل للإنفاق بنسبة 6,1٪، وتتواصل جهود تضييق الفجوة في دخل السكان بين الحضر والريف، وتوسعت نتائج التغلب على المشاكل المستعصية للقضاء على الفقر، وارتفع دخل سكان الأرياف في المناطق المتخلصة من الفقر بنسبة 8,4٪.
في الوقت نفسه، زادت مبالغ المعونات المالية لدعم التعليم الإلزامي والتأمين الأساسي على الشيخوخة والخدمات الطبية الأساسية وغيرها، وتوسعت دائرة مستحقي الإعانات والضمان الاجتماعي، وتم رفع عتبة الخصم الإضافي الخاص بضريبة دخل الفرد على نفقات رعاية المسنين والأطفال دون 3 سنوات وتعليم الأبناء، لإفادة أكثر من 66 مليون ممول، وجرى تجديد المجمعات السكنية القديمة، وعرض المساكن المدعومة حكوميًا، واستفادت من ذلك حوالي 10 ملايين عائلة.
مع الإقرار بالإنجازات المحققة في تحسين المظاهر المعيشية للمواطنين الصينيين بين يوبيلين، الذهبي والماسي، فإن المسألة ليست وردية على إطلاقها، حيث لا تزال هناك الكثير من الصعوبات والتحديات، منها على سبيل المثال وليس الحصر: افتقار النمو الاقتصادي العالمي إلى الزخم، تكرار حدوث القضايا الساخنة الإقليمية، تعقّد الظروف الخارجية وقسوتها وعدم اليقين بشأنها، نقص الطلب الفعال وفائض القدرة الإنتاجية في بعض القطاعات وضعف التوقعات الاجتماعية نسبيًا.
أيضًا، تقر حكومة الصين- في بيانها لنواب الشعب أوائل شهر مارس الحالي- بأنه لا تزال ظواهر الشكلية والبيروقراطية بارزة نسبيًا، ولم يُنفذ فعليًا بعض الإجراءات الإصلاحية والتنموية، وهناك كوادر تنقصها روح تحمل المسئولية والعمل الفعلي، فتتوانى في العمل أو تتنصل من المسئولية أو تؤدي الأعمال بصورة سطحية دون جهد، ولا تزال هناك مشكلات الفساد متكررة الحدوث في بعض المجالات.
سيرًا على الأقدام، وبالقرب من حديقة بكين المركزية يقع متحف أثار صيني جديد، وقد فتح أبوابه للجمهور في شهر سبتمبر الماضي، ويعتبر بمثابة معلم تاريخي وثقافي صيني على طول المحور المركزي لبكين، لعرض أكثر من 5000 عام من الحضارة، يدمج المتحف - التابع للأكاديمية الصينية للتاريخ - بين المعارض والحفظ والبحث الأكاديمي، ويضم قاعة عرض، تبلغ مساحتها أكثر من 7000 متر مربع.
يضم المتحف - كذلك - خمسة أقسام على أساس التغيرات في التنظيم الاجتماعي، ويمثل الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية للصين، وكذلك التبادلات مع الدول الأخرى من العصر الحجري القديم حتى العصر الحديث.
أيضًا، يتيح المتحف للزوار الاستمتاع بالآثار الثقافية الرئيسية من العصور القديمة، وخاصة المراحل الأولى من الحضارة الصينية، بما في ذلك النحت الفخاري لوجه إنسان من العصر الحجري لـ ثقافة يانجشاو، التي يعود تاريخها إلى ما بين 4700 إلى 7000 عام، بالإضافة إلى تمثال مطعم بالفيروز، لوحة برونزية مع قناع من موقع إرليتو في مقاطعة خنان، يعود تاريخها إلى أكثر من 3500 عام.
تشمل المعالم البارزة الأخرى بالمتحف بقايا حصان وعربة من أطلال ينكسو، موقع عاصمة أواخر عهد أسرة شانج (القرن السادس عشر - القرن الحادي عشر قبل الميلاد)، إلى جانب العناصر البرونزية من تلك الفترة.
جميع الآثار الثقافية الرائعة المكتشفة والمعروضة - بطريقة مبهرة بمتحف الآثار الصيني - تم العثور عليها من الحفريات، وتشير إلى أنه منذ عصور ما قبل التاريخ وحتى نهضة العصر الحديث، فإن مسار التنمية لأمة صينية موحدة متعددة الأعراق بطريقة بانورامية هو الأساس، كما تشكل التبادلات بين الثقافات على طول طرق الحرير القديمة، سواء البرية أو عبر السفن، قسمًا رئيسيًا آخر من المعرض.
بقيت الإشارة إلى ما رأيته في المحطة الثالثة من مشاهداتي لمعالم نهضة الصين، وهي تستعد للاحتفال باليوبيل الماسي، حيث قمت بزيارة مقر واحدة من أوائل الشركات المستخدمة للذكاء الاصطناعي، وقد تأسست عام 2000 كمنصة لمحركات البحث، وبدأت نشاطها عام 2010، لتسهيل اكتشاف المحتوى على الإنترنت.
اليوم، أصبحت الصين تمتلك بالفعل شركات رائدة في مجال الذكاء الاصطناعي وتتمتع بأساس قوي على الإنترنت، وتقدم مجموعة كاملة من الذكاء الاصطناعي، والتي تشمل بنية تحتية تتكون من شرائح الذكاء الاصطناعي وإطار التعلم العميق وقدرات الذكاء الاصطناعي الأساسية، مثل معالجة اللغة الطبيعية والرسم البياني للمعرفة والتعرف على الكلام ورؤية الكمبيوتر والتقنيات المعززة، بالإضافة إلى منصة مفتوحة للذكاء الاصطناعي لتسهيل التطبيق على نطاق واسع، وحالات الاستخدام المبتكرة.
على مدى العقدين الماضيين، قامت الشركات الصينية ببناء مجموعة متنوعة من المنتجات والخدمات مع إجمالي فرص كبيرة في السوق، من خلال أكثر من مليار جهاز شهريًا، وتمتد أعمالها عبر نظام بيئي يضم مئات الملايين من المستخدمين وملايين المطورين ومئات الآلاف من المؤسسات، ووصلت منتجاتها إلى 544 مليون وحدة مستخدم شهريًا في ديسمبر 2020.
في عامها الماسي، 2024، اعتمدت الصين سياسات تدعم التنمية عالية الجودة للاقتصاد الرقمي، وتدفع بنشاط تصنيع التقنيات الرقمية ورقمنة الصناعات، وتعزز الاندماج العميق بين التقنيات الرقمية والاقتصاد الحقيقي، وتعمق بحث وتطوير وتطبيق تقنيات مثل البيانات الكبرى والذكاء الاصطناعي، وتطلق عملية "الذكاء الاصطناعي +"، وتبني تجمعات الصناعات الرقمية ذات القدرة التنافسية الدولية.
[email protected]